حين دخل قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلاميّ في كلية اللغة العربية أول مرّة مطلع عام 1413ه دخله غريبًا وحيدًا، قلقًا خائفًا، لقد كان قادمًا من جامعة أخرى مختلفة، وجوٍّ آخر مختلف، وزملاء آخرين، دخل القسم دارسًا في مرحلة الماجستير، وهو حينها لا يعرف فيه أستاذًا ولا طالبًا، ولا قاعةً ولا مكتبًا، ولا مرؤوسًا ولا رئيسًا. لكنه حين لقي رئيسَ القسم اطمأنّ شيئًا ما. ومضى إلى قاعة الدرس مُثقل الخُطى في اليوم الأول، ثم في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث كان لقاؤه أول مرة مع ذاك الأستاذ الذي اطمأنّت نفسه إليه بابتسامته المشرقة، ونفسه المقبلة، ومحاضرته الممتعة. فاطمأنّت روحه، وهدأت ثائرة نفسه؛ إذْ وجد في هذا الرجل صفات آسرة، وقواسم في شخصيته تجمعه به، وتشركه معه برباط خفيّ! وكان ذاك «الرئيس» هو الدكتور محمد بن علي الصامل؛ الذي وجده في مكتب رئيس القسم رئيسًا شعر حين دلف إلى مكتبه بمعاني الحزم والهيبة، مجموعةٍ إلى معاني الودّ والألفة؛ فقد كان من تلك الطائفة التي تشعرك وهي مسؤولة أنها تعمل مستحضرة أنّ الكرسيّ الذي تجلس عليه لا يختلف عن غيره إلا بكثرة ما أمامه من أوراق ومسؤوليات، وأنّ المكتب الذي يمضي فيه ساعات هو محطة يجب أن ينجز فيها إجراءات في الطريق إلى هدفه، وأنّ العمل الذي أوكِل إليه أمانةٌ سيُسأل عنها، وأنّ كلّ من يدخل عليه صاحبُ حاجة وحقٍّ يجب أن يقدره قدره! وكان ذاك «الأستاذ» هو الدكتور محمد بن علي الصامل؛ الذي وجده في قاعة الدراسة أستاذًا من النوع المهيب المحبوب؛ فكان يدخل القاعة مقبلًا مستبشرًا، يقبل على طلابه بروحه السمحة الطيّبة، ويقدّم مادّة علمية بدا واضحًا أنه اجتهد في ترتيبها وتقديمها، وبذل في إعدادها وتبويبها، بأسلوب بهيٍّ جذّاب، ولغة جزلة واضحة، وصوت عذبٍ جهوريّ، حتى كانت ساعته على نفس تلميذه ساعةً ماتعة خصبة، يجد فيها كثيرًا مما يبحث عنه ويألفه. وأثناء دراسته تلك السنة غاب الأستاذ محاضرة واحدة، كان الغيابَ الوحيدَ منه طوال سنة كاملة، علم وزملاؤه حين افتقدوه أنّ والده - رحمه الله - تُوفّي، فلَمّا وافاهم الأسبوع التالي، لمس - بنفسه المرهفة - حزنًا في أعماق قلب أستاذه، ومعالمَ انكسار في صوته، ولم يكن الأستاذ يشعر أنّ تلميذه حينها ازداد تعلُّقًا برجل له بأبيه تعلُّقٌ؛ إذْ كان ذلك قاسمًا مشتركًا آخر بينهما، فضلًا عن أنه كان يشعر أنّ هذا الأستاذَ - البارّ بأبيه المتعلِّق به - هو أبوه في القسم! وأثناء تلك السنة وبعدها قابله «الرئيس الأستاذ» المقابلة الشخصية اللازمة لمتطلّبات التعيين في القسم؛ فكانت إجابته عن سبب اختياره القسم قاسمًا مشتركًا جديدًا بين الصغير والكبير، والتلميذ والأستاذ. عرف ذلك فيما بعد حين عرف للأستاذ همًّا علميًّا سعى إلى تحقيقه، وهو إثبات أنّ لأهل السنة موطئ قدم في هذا التخصّص، فأنجز فيه إسهامات علمية، كان من أهمها بحثه الماتع: «المدخل إلى بلاغة أهل السنة». وكان هذا التوجّه منه دليلًا على أنه رجل ذو رسالة وهدف، وأنه ممّن يعمل لقصْد عالٍ نائف، وأنه من المنافحين عن العقيدة الصافية لهذه الأمة، الذين خدموها وخدموا تخصّصهم بما بيّنوا وأوضحوا، وأنه شوكة في حلوق أصحاب الأهواء والبدع، وأنصار المذاهب والأحزاب! وحين اختار عنوان بحثه في الماجستير تشرّف بأنْ كان الدكتور محمد الصامل مشرفًا عليه؛ فجمعتهما علاقة أوثق، وصلة أقوى، ورابطة أشدّ؛ فكان يتصل به في كل حين، ويلقاه في بيته كثيرًا، فوجد فيه أستاذًا مشجِّعًا منجزًا، ومعلِّمًا ناصحًا مرشدًا، ولا يزال يذكر ما كتبه له في أول مبحث قدّمه له، إذْ علّق على عمله مثنيًا ومشجِّعًا ومؤكِّدًا على أن يكون لتلميذه هدف سامٍ في مسيرته العلمية والعملية؛ فوافق ذلك التوجيهُ من الأستاذ شيئًا في نفس تلميذه فتمكَّن! وكان من ثمرات كثرة لقاءات التلميذ بالأستاذ أنْ عرف صفحة زاهية جميلة من صفحات برّ الأستاذ بوالدته رحمها الله؛ فكانت مقيمة عنده لا تبرح منزله إلا أوقات محدودة، تذهب فيها إلى بيت أحد أبنائها أو بناتها، ثم تعود إلى مقرّها الرئيس، لكنه يتعلّم منه كل يوم أدبًا وبرًّا وحبًّا لأمّه يمتزج مع كلماته عنها، ويظهر في ابتسامة مشرقة حين يذكرها. وكان من ثمرات هذا الحبّ ما كان يبديه من محبّة ووفاء لزوجته أمّ عليّ لبرّها بأمه، وحسن عنايتها بها. وامتدّت تلك العلاقة بينهما سنين طويلة كان يسمع خلالها ويرى صورًا من البرّ يُكبرها في نفسه، ويُكبر صاحبها. وحين استدار الزمان فرُشِّح «التلميذ» رئيسًا للقسم، وجد حرجًا كان يمنعه من القبول؛ فقد كان أصغر أعضاء القسم، وكان مما يزيده بُعدًا عن القبول أنه سيكون رئيسًا لشيخه: الأستاذ الدكتور محمد الصامل، لكنه وجد هذا الشيخ يمحض النصح له، ويدعوه إلى القبول، رابطًا ذلك بتقديم شيء يخدم الجامعة والكلية و التخصّص والعلم وطلابه. وهو يشهد الآن وقد مرت ثماني سنوات أنّ أستاذه طوال سِنِيِّ رئاسته للقسم كان نعم «المرؤوس»، وأنه لم يشعر بغير ذلك طوال تلك السنوات الأربع، وخلال ترؤّسه لمجلس القسم أكثر من مئة مرة، بل كان نعم المعين، ونعم المستشار، ونعم العضو! يُقبِل على ما يَطلبه منه، ويَقبل ما يكلّفه به، ويعمل بجدٍّ وحرص، وينتظم في أعماله، ولم تصله طوال تلك السنوات شكاية عليه من طالب، أو زميل، أو مسؤول؛ فكانت سيرته نقيّة صافية، لا تشوبها شائبة! ومن حسنات الشيخ على تلميذه أنه كان كثير الحثِّ له على إنجاز بحوث الترقية، وكان حثُّه وقودًا يتقوّى به وسط أعمال إدارية تتابعت عليه، فكان ذاك الوقود بفضل الله َ زادًا أعانه على الوصول! وقد لفت نظرَه حرصُ أستاذه على حثّ جميع أعضاء القسم وكلَّ مَن يعرف على البحث والإنجاز، لم تمنعه رتبته العلمية - وقد بلغ أعلاها حين نالته الأستاذية! - أنْ يسعى لينالها غيره. وهذا برهان على نُبل في شخصيته جعله أبعدَ الناس عن الكراهية والدسّ والحقد والحسد، حريصًا على مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، سريعًا في أداء الواجب غيرَ مقصِّرٍ ولا متوانٍ. وتولّى الدكتور الصامل عمادة كلية اللغة العربية عامين حافلين، ختم بها مسيرته الوظيفية، والكلية تشهد برجالها وقاعاتها وأقسامها أنّ ذينك العامين كانا عامَي خِصب ورخاء واستقرار، أدار الكلية فيهما كأحسن ما تكون الإدارة؛ حزمًا وعزمًا وأمانة ومضاءً؛ فلما ترجّل الفارسُ ترجَّل وقد حَمِد سيرتَه كلُّ من عمل أو تعامل معه. وأمّا ردهات الجامعة، وقاعاتها الكبرى فله فيها آثار باقيات، وأعمال وإنجازات؛ إذْ رأس كثيرًا من لجانها، وشارك في الكثير، كما كان فارسَ أكثر مؤتمراتها العلمية الجادّة ومهندسَها، وهو محطّ الثقة والاطمئنان التي دعت إلى تكليفه في كثير من تلك المؤتمرات بإدارة أعمالها، حتى صار واحدًا من خبراء تنظيم المؤتمرات في أحسن الصور. وارتفع فلم يكن في بذله طالبًا لمتاع أو مكافأة، ولم ينظر يومًا إلى ما يتهافت الناس إليه، ولم تمتدّ يده إلى ما تحت يده، ويذكر صاحبنا أنه في اليوم التالي لانتهاء عمادته سارع إلى تسليم سيارة الجامعة، ولم يتأخّر! جعله ذلك معروفًا بين رجال الجامعة في جميع عهودها في العشرين عامًا الأخيرة، ولم يلق صاحبُه رجلًا واحدًا يذكره بسوء أو يبغضه، بل كان ذكره - حفظه الله - ذكرًا مشرِّفًا في كل مقام وكل حين. وكسب ثقة الجميع واحترامهم وودَّهم، حاديه ورائده نفعُ الجامعة التي أحبَّها حتى شغلته عن كل شيء عداها، ولم يشغله عنها شيء، وحتى تفرّغ لها تفرُّغًا تامًّا، بَخَسَ معه حقَّ نفسه وأسرته، وكان حقًّا عليها أنْ تبادله الوفاءُ! وأمّا صاحبنا فلم يمنع فارقُ السن والقدر والعلم بينه وبين أستاذه من أنْ تستحيل تلك العلاقة إلى علاقة صداقة وودّ، صارا متوثّقين بحبل منها لا ينفصم، وتلك منّةٌ من أستاذه وسموّ نفس. ولقد بلاه صاحبُنا غريبًا، ثم طالبًا، ثم تلميذًا، ثم مرؤوسًا، ثم زميلًا، ثم رئيسًا، ثم مرة أخرى مرؤوسًا، ثم أخًا صديقًا؛ فلم يجده إلا إنسانًا واحدًا؛ بنُبله وبذله وصدقه ونصحه واجتهاده وتواضعه، لم يجد منه يومًا تجاوزًا أو تفريطًا، ولم يلق فيه ظلمًا أو كيدًا، وعرف فيه إخلاصًا لدينه وأمته ووطنه، مستعدًّا للتضحية في سبيل ذلك ومن أجله. وهكذا يكون الرِّجالُ أصحابُ القيم والمبادئ! خاتمة: في الاسم معاني الحمد والعلوّ والهمّة، وفي المسمّى صور الخُلُق والجدّ والعزّة، وحسبك في رجل كان محمود السيرة والسَّير، عليَّ القدر، شديد الصبر! ** **