يصوغ الشاعر فيصل أكرم قصائد ديوانه «كالطوْق من حولي تربَّع» بمشاعر وأفكار المسافر نحو ذاته وذوات الآخرين فتحيا نصوصه في نبض فكرنا ومشاعرنا كأنها ثمرات أسفار دانية. فنحن الطريق والسفر ونحن ذواتنا الحاضرة والغائبة دوماً. نلامس في هذا المقال شاعرية ديوانه على ضوء النموذج الفلسفي السوبر مستقبلي. سوبر مستقبلية الشِّعر يتشكّل الشعر في المستقبل. لذا من المتوقع أن تُبنَى القصائد على ضوء أنَّ التاريخ بكل حقائقه يتحدَّد ويتكوّن في المستقبل فتتجه القصائد نحو صياغة ذواتها من خلال اتجاه الزمن من المستقبل إلى الحاضر والماضي بدلاً من العكس. هذا يعني أنَّ المستقبل يلعب الدور الأساس في بناء القصائد الشعرية فتنطلق القصيدة من المستقبل المُتخيَّل في عقل ومشاعر الشاعر لتكوِّن ذاتها في حاضر يتحوّل إلى ماضٍ ينتفض على نفسه ويثور باستمرار ليتجه إلى مستقبل جديد يُعيد صياغة ذاته بشكل مستقبليات متكررة ومتنوّعة تنتج الأعداد اللا متناهية من نُسَخ الحاضر والماضي. الحاضر والماضي غير مُحدَّديْن لكونهما من صناعة المستقبل الذي يبقى مستقبلاً ما يفسِّر لماذا القصائد الشِّعرية تبقى غامضة وإن أوضحت وتبقى قابلة لتفاسير وتأويلات مختلفة فتغتني بذلك وتسمو. فالشعر من الشعور لكن مشاعرنا تتشكّل في المستقبل لكونها تُبنَى على ضوء تصوراتنا حول كيف سوف نكون في مستقبل لم نصل إليه بعد. لذلك الشعر السوبر مستقبلي يصوغ نصه من منطلق المستقبل أي على أساس ما ستكون عليه مشاعرنا في مستقبل مُتخيَّل. وهذا يفسِّر لماذا يملك الخيال دوراً أساسياً في صناعة الشِّعر وإتقانه. فالشِّعر قائم على المستقبل المُتخيَّل ولذا من المتوقع أن يتكوّن على ضوء الخيال. لكنه خيال يلامس الواقع والحقائق يعبِّر عنها بطريقة أو أخرى لأنَّ الواقع أيضاً يتكوّن في المستقبل كما تقول الفلسفة السوبر مستقبلية. الخيال تصوّر الوقائع الممكنة بينما الواقع مجموع كل الممكنات ولذلك تعتمد القصائد الشِّعرية على الخيال والواقع معاً. الشِّعر بناء الحاضر والماضي على ضوء المستقبل. الشِّعر شعور وفكر لكنه شعور وفكر مُتشكِّلان في المستقبل. التاريخ يبدأ من المستقبل كما تؤكد السوبر مستقبلية. لذلك الشِّعر أيضاً يبدأ من المستقبل ويتكوّن على ضوء ذواتنا وماهياتنا المستقبلية. فإن تصوّر الفرد أنه سيصبح شاعراً أو طبيباً أو مهندساً إلى ما هنالك في المستقبل فسوف يتصرف على هذا الأساس بذلك المستقبل وكيف نتصوّره يحدد أحداث الحاضر والماضي وبهذا المعنى التاريخ يبدأ من المستقبل. لذا من غير المستغرب أن تبدأ مشاعرنا وأفكارنا من المستقبل فيتشكّل الشعر من المستقبل ويتجه إلى مستقبليات لا متناهية. هكذا أيضاً يحررنا الشّعر من حاضرنا وماضينا لكونه كينونة مستقبلية تسهم بقوة في صياغة الإنسان المستقبلي. على أساس هذا النموذج التحليلي نقرأ قصائد الشاعر فيصل أكرم لنرصد فعالية المستقبل في بناء نصوصه. الكون كانتظار يصوّر الشاعر فيصل أكرم الكون على أنه مسافات بين انتظارات غير متناهية. وهذا متوقع من منطلق التحليل السوبر مستقبلي لأنَّ الكون يتكوّن في المستقبل وبذلك من الطبيعي أن يكون الكون مجرد مسافات بين مستقبل يتحوّل إلى حاضر فماضٍ ومستقبل آخر في انتظار أن يتحقق في الحاضر والماضي. هكذا الكون صيرورة المسافة والانتظار ما يمكّننا كبشر من أن نحيا في المستقبل المعتمد في تشكّله على تصوراتنا عنه وقراراتنا بشأنه. على ضوء هذا النموذج التحليلي تبرز عبارة الشاعر: «وأنتم الحلم الأخيرُ، يموت لو يوما ً تَفَسَّر» (فيصل أكرم: كالطوْق من حولي تربَّع، 2018، المكتب العربي للمعارف). بما أنَّ الكون بكل حقائقه ووقائعه يتكوّن في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق كلياً في الحاضر والماضي. إذن كل ما نشاهد وما شاهدنا مجرد حلم. وهو الحلم الأخير لأنه حلم تحقق كل الوجود أي حلم تحقق كل المستقبل في حاضرنا وهذا مستحيل. نحن حلم أخير لا تفسير له ويزول إن تَفَسَّر لأنَّ هذا الحلم حلم تحقق ماهياتنا وصفاتنا المستقبلية كافة وهذا مستحيل لكون المستقبل يبقى مستقبلاً. بكلامٍ آخر، علماً بأننا نتكوّن في المستقبل بينما المستقبل يبقى مستقبلاً، إذن من غير المستغرب أن نكون حلماً لا يتفسَّر. (لا شيء من خلف الستار سوى الجدارْ/ لا شيء بعد الانتظار سوى انتظارْ). هكذا الكون انتظار ماهيته السفر كما أنَّ الكون سفر ماهيته الانتظار. ينسج الشاعر فيصل أكرم قصائده السوبر مستقبلية قائلاً: «سأقول: لا/ هو في الحقيقة كالحقيقة/ هل تطير حقيقة كرصاصة صوبَ الحقائق؟». هنا يؤكّد الشاعر على سوبر مستقبلية نماذجه الشِّعرية ولذا يقول «سأقول» بدلاً من «أقول» أو «قلتُ». فالقول متحقق في المستقبل ولذلك «سأقول» ولن «أقول» ولا «قلتُ». والهو الموصوف هو في الحقيقة كالحقيقة وبذلك هو ليس مطابقاً للحقيقة رغم أنه حقيقة ذاته لأنَّ الحقائق تتشكّل في المستقبل لكن المستقبل غير متحقق بعد وبذلك من الطبيعي أن يكون هو كالحقيقة وليس الحقيقة عينها. الحقيقة تطير كرصاصة صوب الحقائق لأنها بحث مستمر عن ذاتها لكونها غير متحققة بشكل كلي في الحاضر والماضي من جراء تحققها الفعلي فقط في المستقبل. هكذا تمضي الحقائق نحو اكتشاف ذواتها فتضمن بقاءها فإن كانت متحققة كلياً وتعرف ذواتها حينها لا حاجة لبقائها. فهي باقية لوجودها. من هنا حين تراوغ الحقيقة وتخفي ذاتها تنجح في البقاء وتضمن وجودها. الأنا كسَفَر يسأل الشاعر فيصل أكرم ويجيب بانشطار الأنا وبجدلية فنائها وبقائها في آن: «هل كان غيرُكَ في الطريق؟/ قال لي/ وأنا أمدُّ له الخواتمَ، في انشطارٍ/ بين كونيَ والعدم». الحياة طريق لأنها سَفَر. وفي هذا السَفَر تتقلّب الأنا بين أن تكون في الوجود وأن تكون في العدم. فالأنا غير مُحدَّدة لكونها تتشكّل فقط في مستقبل يظل مستقبلاً لا يتحقق كلياً في حضور ذواتنا وماضويتها. فبما أنَّ الأنا تتكوّن في المستقبل فقط لكونها تكتسب صفاتها بشكل كامل في المستقبل الذي من المفترض أن نحياه. إذن الأنا غير مُحدَّدة في الحاضر والماضي ما يحتِّم تقلّبها بين وجود وعدم. هذا التقلب في كينونة الأنا يجعلها في سَفَر دائم فتكتسب ماهية أنها مجرد سَفَر. لكن الأنا في لا يقينياتها الوجودية تبحث عن ذاتها. فلا محددية الأنا تطالبنا بتحديدها. ولا يمكن تحديدها سوى من منطلق ما سوف تكون عليه في المستقبل لكونها كينونة مستقبلية. لذا تسافر الأنا باستمرار نحو ذاتها فتبقى غير مُحدَّدة في صيرورة تحديدها المستمر ما يضمن لا نهائية سفر الأنا وآلام لا محدديتها وفرحة تحديدها الدائم. فالأنا تُنتَج في كل ثانية على أنها ذاتها والآخر المُحدِّد لذاتها فتظل في سفر غير متناه. من هنا يقول الشاعر: «فأنا أسافرُ كي أسافرَ من سَفَرْ». السفر اللا مُحدَّد يدعونا إلى السفر منه فنستمر في السفر من سفر إلى آخر. الحياة سفر متواصل من ذواتنا إليها. فلا تتحقق ذواتنا أبداً لكونها كينونات مستقبلية والمستقبل بِكليته غير متحقق بالضرورة. لذلك تواصل الأنا صناعة ذاتها لكنها لا تصنع سوى سفرها الدائم. من هنا، من غير المستغرب أن تتحوّل يقينياتنا إلى شكّ مراوغ ويتحوّل شكّنا إلى يقينيات كاذبة. لكن جدلية الشك واليقين أي جدلية لا محددية الأنا وتحديدها المستمر تضمن بقاءنا. فإن كانت الأنا مُحدَّدة لزال سبب وجودها الكامن في بحثها الدائم عن ذاتها. هكذا الحياة دوماً منتصرة. «فالعمر، ندري، قد مضى/ لكنه سيظلُّ يمضي». وهمية العمر الماضي تطالبنا باستمرارية إنتاج العمر في المستقبل ولذا العمر سيظل يمضي نحو المستقبل فتنتصر مستقبلية الحياة رغم وهمية الزمن المعيش. ليس بالحقيقة فقط يحيا الإنسان بل بالوهم أيضاً. بالإضافة إلى ذلك. حين تكتشف الأنا لا محدديتها تعترف بأنها لا أحد; «فانهض معي، يا (لا أحدْ)؟!/ وحدي ألوِّحُ في الغبارْ». لكن هذا اللا أحد يوحِّد في ذاته كل الظواهر والذوات الأخرى من جراء لا محدديته. «وأنتَ أنتَ، إذا تساوتْ في مراياكَ السحابة والرمالْ». فالأنا تتحوّل إلى مرايا ما يمكّنها من التوحّد مع الحقائق كافة لكونها غير مُحدَّدة في حقيقة ذاتها. من جهة أخرى، بما أنَّ الأنا تبقى غير مُحدَّدة رغم أنها تتمارى في الذوات والحقائق الأخرى كافة، إذن من المتوقع أن تجمِّع الآخرين في ذاتها فتضيع وأن تضيِّع الآخرين حينما تلاقي ذاتها: «ولربّما/ بدَّدتُ نفسي حينما جمَّعتهم/ ولربّما/ لاقيتُ نفسي عندما ضيَّعتهم». هكذا تظل الأنا في صيرورة لقاء ووداع ذاتها فالحضور غياب مؤجَّل والغياب حضور مُضمَر. وهذا منطقي بسبب لا محددية الأنا وبسبب أنَّ الكون مسافات وطرقات وأسفار وانتظارات لا متناهية من جراء أنَّ التاريخ يبدأ من المستقبل واستحالة تحقق المستقبل كلياً في الحاضر والماضي. الشِّعر تحليل فلسفي أيضاً كما هو تحليل مشاعري. يقول فيصل أكرم: «وأنتَ تظلُّ تسيرُ وحيداً في الطرقاتْ/ وتقولُ: سأصلُ قريباً، حين يعودُ الدربُ إلى الخطواتْ». هكذا يبقى الوصول المستحيل لأننا نولد في المستقبل فوحده الدربُ سيد الحياة وخطواتها.