لم ترد في مخيلتي فكرة العيش بدون اسم، فمنذ نشأت وعلاقتي باسمي علاقة ودودة، أبحث عن معناه وأفتش عن أثره في ذاتي، فلم نختر أسماءنا إنما سُمينا بها، وهذا لم يمنع اعتقادنا بأثر الاسم على المسمى، وتكرار الكلمة على الإنسان يؤثر فيه وفي تكوينه الباطن في التحليل النفسي، لذلك نجد عناية بالغة في تسمية المواليد مع البحث عن معانيها وطرافتها وانتمائها، وكل شيء في الدنيا له اسم عند الأحياء والجمادات سواء، وحتى الاختراعات والصواريخ الحربية والفضائية والأقمار الصناعية لها أسماء ولأسمائها دلالات. ونجد في تراثنا العربي عنايةً بالأسماء، وحصرَ تعدد المسميات للمسمى الواحد، وتبيانَ الفروقات الدلالية بينها لاختلاف أحوالها، كما نجده في كتاب (الفروقات اللغوية) لأبي هلال العسكري، وعدّ ابن القيم أسماء الحُبّ وقد تجاوزت تسعين اسما، لكل حالة لها اسم، ومثل ذلك كثير، وتتعدى عناية العرب بالأسماء إلى إضافة الألقاب والكُنى، فلكل إنسان اسم رئيس ولقب فرعي وكنية، وكل ذلك يحظى بعناية ودراسة. إن ما سبق تمهيد للموضوع الذي أود الحديث عنه في هذا المقال، وكان يمكن اختزاله في كلمتين أو ثلاث كلمات لو أنني عنونته ومهدت له بسطرين وولجت إلى الموضوع مباشرة، فلماذا العنت إذاً؟! المقالات والكتب مثل المواليد تحتاج لأسماء نعبر عنها بالعناوين، فالعنوان هو الدليل الذي يوجه القارئ نحو موضوع المحتوى، وقد يستعين العنوان الرئيس بعنوان فرعي يوضحه ويتمه -يقوم مقام الكنية في فرعيتها عن الاسم الرئيس-، واتجهت الدراسات الحديثة في الأدب إلى دراسة العنوان قبل النص لتبين العلاقات بينهما، وتقيس قوة العنوان في كفاءته لأداء الوظيفة الوصفية أو الإيحائية للمحتوى، فمن الكُتاب من يوفق في اختيار عنوان للنص -مقال، كتاب، قصيدة، قصة، رواية ...-، ومنهم من لا يوفق، وللعنوان دور في إشهار الكتاب لاستقطاب أكبر قدر من القراء، لذلك على القارئ أن يتأكد بنفسه، أو يستند على دراسات تعينه على الكشف عن العنوان المخاتل. وحتى الآن لم ألج إلى الموضوع صراحة، وقد استنفدت نصف المقال، لأن هذا المقال بدون هوية تمسك به، وتوجه مساره نحو المحاور التي تتعلق بموضوعه الذي يدلل عليه العنوان، وهذا الأمر يقودني لسؤال بعض المهتمين بالأدب من النقاد الذين يهملون دراسة العنوان بل يرون أن دراسة العناوين لا تدخل في مجال الدراسات الأدبية: كيف لا يهتم النقد الأدبي بدراسة العنوان وهو واجهة النص؟! ولماذا لا يكشفون للقارئ جماليات العنوان وكفاءته وعلاقته بالنص وفن إبداعه؟! بل يرون أن دراسة الغلاف لا تدخل في مجال النقد الأدبي، فالعنوان وبيته لا يدخلان في دراستهم على أنهما الهوية والمسكن اللذان يشدان المحتوى إلى الاستقرار. فإذا لم تهتم الدراسات النقدية بالغلاف والعنوان فمن يهتم بهما؟ ولمن تؤول المهمة؟ ومن سيقيّم كفاءة العنوان والغلاف وعلاقتهما بالنص؟ ومن سيكشف عن الجماليات الأدبية فيها؟ إذا أهملت الدراسات النقدية الغلاف والعنوان ولم تر علاقتهما بها فستتكاثر أكثر الكتب البيضاء التي تتوسط بياضَها لوحة متداخلة الألوان على هيئة مستطيل، ولا يمكن أن تقارن بينها وبين غلاف رواية (الزهايمر) أو (الجنية) لغازي القصيبي، أو غلاف (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون.