سؤال لا يفتأ يتردد في أذهان الدارسين، والنقاد عن النص الذي يستحق أن يكون موضوعًا للدرس، أهو النص الذي يكون قد سار في الآفاق، وانتشر بين الناس، وأجمعوا على استحسانه، أم هو النص الذي يشعر القارئ (الدارس) بتماس خاص معه، فيجد فيه مادة ثرية للقول؟ والسؤال هذا يرتد إلى سؤال أعمق، وأقدم عن الأسبقية بين الأدب، والنقد، وهي تكاد تكون حلقة مفرغة شبيهة بما يسمى بالجدل البيزنطي، بيد أنه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن اشتهار النص، وسيرورته بين الناس ليست الحكم الوحيد. على أن هذه السيرورة لا تكون بمستوى واحد، فهناك سيرورة أدبية، وسيرورة علمية، وسيرورة تاريخية، ولو أخذنا كتاب «حياة في الإدارة» لغازي القصيبي، ونظرنا إليه من زاوية كونه نصًا أدبيًا، فإننا لا نجد أن انتشاره يعود إلى ذلك، حتى مع اعتباره «سيرة ذاتية»، فتناولها الحياة الإدارية يجعلها محل عناية فئة من الناس ليس الأدب من اهتمامها، الأمر الذي يجعل نطاق تداول النص غير نطاق أدبي، ما يقلل حضوره الأدبي طبقًا لنظرية الأجناس الأدبية التي ترى أن تصنيف القارئ للنص يمثِّل محكًا في أدبية الأدب، وأجناسيته. وهذا يعني أن النص قد يستدعي الكتابة، و»النقد»، والتحليل على الرغم أنه قد لا يكون داخلًا في إطار الأدب، ليس على المستوى الموضوعي وحسب، وإنما على المستوى الفني (الشكلي) أيضًا، بناءً على أن القضايا الفنية، والبنائية للنص، وملامحها، وتأثيراتها على إنتاج معنى النص، هي أيضًا مادة خاضعة للاستنباط، وإعمال العقل، وليست محكومة بنمط معين، الأمر الذي يعيدنا هذه المرة إلى نظرية علم النص، الذي يعد أن المحك فيما يجعل النص نصًا، هو ما يقال عنه من قول، واعتباره أصلًا يدور حوله الكلام. وهذا يعني مرة أخرى أن «النقد» هو الذي يحول الكلام من كلام عادي إلى كلام خاص، ينال قيمة النصوص. هذا النقد يقوم به القارئ الخبير، الذي يتمكن من معرفة مواطن التأثير في النص، ويملك المهارات الكفيلة بقدرته على ربطه بنصوص أخرى مشابهة، أو مغايرة، تضعه في سياقه الصحيح بين النصوص، وتمثل المعيار الدقيق لقيمته. وبالإضافة إلى الاعتماد على القراءة النقدية لتحديد القيمة، هناك معيار آخر، يتمثل بما سمي من قبل ب»سيرورة النص» بين الناس، والمتلقين، وقد يقول قائل: إن هذا أمر طبيعي أن نعتبر أن «السيرورة» محك لقيمة النص، ولكن هذه «الطبيعية» إنما توجد عندما يكون النص مقبولًا في الأنواع الأدبية المعتمدة عند ثقافة ما، وإما إذا كان هذا النص غير مقبول في تلك الثقافة، ولا يندرج تحت الأنواع الأدبية الرسمية، فإن «السيرورة» قد لا تكون كافية عند بعض الناس بالتسليم بقيمته الأدبية، وهنا يمكن أن أضرب مثلا «بألف ليلة وليلة» الذي لم يكن في الأساس نصا أدبيًا معتبرًا في الثقافة العربية، وظل على هذه الحال حتى بعد تدوينه ردحًا من الزمن إلى أن جاء المستشرقون في العصر الحديث، وعنوا به العناية الفائقة. وعلى «ألف ليلة وليلة» يمكن أن أقيس «حياة في الإدارة»، الذي تجاوزت طبعاته ست عشرة طبعة، وقد قرئ على مستويات عدة، وقد يقول قائل: إن سبب هذه الشهرة أو ما سميته ب»السيرورة» يعود إلى أسباب ليس بالضرورة طبيعة النص وتكوينه منها، وإنما أسباب أخرى كسمعة المؤلف، وصيته، ومكانته الاجتماعية، أو ما يحيط به من المنع، والتضييق بحيث يكون محط انتباه الناس، وقراءتهم، أو ما يعالجه من موضوع بأن يكون خارجًا عما يقبله المجتمع في الدين، والأخلاق بالرغم أنه لم يأت بجديد يستحق النظر؟ وإذا كان هذا القول صحيحاً في جزء منه، فإن تحول النص إلى مادة للقراءة، والقول بين فئام المجتمع المختلفة، يجعله حادثة واقعة في حياة الناس بوجه عام، وبالمجتمع، الأمر الذي يجعله مؤثرًا سواء في مفاهيم الناس، وتصوراتهم، أو في طريقة كلامهم، ونظرتهم للأمور، وقد يستدعي نصوصًا أخرى تكتب على منواله، أو تحاكيه، وتتأثر به بصورة من الصور كالاقتباس أو الإشارة أو الرد والتفنيد والمحاورة. الأمر الذي يجعل الحديث عن سبب انتشاره بعد ذلك ضربًا من العبث لا معنى له، بناء على أنه قد أخذ موضعه في السياق الأدبي، والاجتماعي، وأصبح واقعة أدبية لها، أو انعطافة من انعطافات التاريخ الأدبي، وضعت صبغتها على من كان يجايلها، أو جاء بعدها، وأثرت بالأدباء، الأمر الذي يقال إن الأمر قبلها لم يكن كحاله بعدها، وهو ما يجعله نصًا يستحق العناية والتقدير.