دخلت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) حيز النفاذ في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2005، حتى يناير 2013، وصادقت عليها 165 دولة. وكان على المملكة منذ ذلك الوقت اتخاذ التدابير اللازمة لتفعيل استجابتها الداخلية والدولية لنداءات مكافحة الفساد، وهو عبء ملقى على عاتقها حماية لمواطنيها ولموقفها الدولي. وكان قد صدر في عام 1432ه تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كما صدرت أنظمة أخرى مرتبطة بمكافحة الفساد، كالرشوة وضوابط العقود الإدارية وغيرها، واستطاعت المملكة خلال هذه الفترة تحقيق قفزات واسعة في مكافحة الفساد رغم الصعوبات القانونية والفنية التي صاحبت هذه المكافحة. وأخيرًا استطاعت الحكومة تنفيذ وعدها بمكافحة شاملة للفساد، لا تستثني أحدًا مهما كانت مرتبته السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. وقد جاءت تنفيذًا لما ذكره ولي العهد بأن مكافحة الفساد ستطول كل مخالف كائنًا مَن كان. فقد قامت الحكومة بإيقاف عدد من الشخصيات في قضايا فساد، منهم أمراء ووزراء سابقون وحاليون ورجال أعمال مرموقون وخلافه؛ ما شكَّل مفاجأة كبيرة للشعب السعودي الذي عبَّر عن ارتياحه الكبير لهذه الخطوة المهمة لاجتثاث الفساد. ومنذ إعلان الخبر حتى اليوم ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عن سقوط العديد من الرؤوس التي كانت تعتبر نفسها فوق القانون. لكن ما يجب توضيحه للناس من ناحية قانونية محضة أن الإيقاف للتحقيق ليس إدانة بالفساد، بل هو مجرد شبهات قوية على القيام بجرائم تتعلق بالوظيفة العامة أو المال العام.. وأن هذا التوقيف لا يلغي قرينة البراءة التي تذهب إلى أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. ويترتب على هذا المبدأ أن إثبات الفساد يقع على عاتق النيابة العامة، وليس على عاتق المتهم أن يثبت عدم اقترافه الجرائم. وإضافة إلى هذا فإن قانون الإجراءات الجزائية - وقد تم الإشارة إليه في ديباجة الأمر الملكي - قد وضع ضمانات كافية، تنبثق من قرينة البراءة هذه منعًا لامتهان كرامة شخص لا يزال متصفًا ببراءة الذمة، ويترتب على ذلك أيضًا أن من تم توقيفهم سيخضعون لإجراءات تحقيق، وليس لحكم مباشر من القضاء، وأن التحقيق -طال أو قصر - يخضع هو أيضًا لضوابط وضمانات للمحقَّق معهم، تمنع تلبيسهم تهمًا غير حقيقية. أعتقد شخصيًّا أن منظومة تحقيق عدالة سامية قد توافرت تمامًا في المملكة؛ ما يعني أننا نمر بمرحلة مهمة من الشفافية الإدارية للدولة. إن حماية المال العام حماية في الواقع لحقوق المواطن السعودي فقيرًا كان أو ميسور الحال؛ لأن حماية المال العام تعني القدرة على توفير خدمات عامة أفضل وأكثر للمواطن صحيًّا وتعليميًّا وثقافيًّا.. إلخ. من جهة ثانية، يمكننا أن نلاحظ من خلال شخصيات الموقوفين أن تورطهم في الفساد يُقصد به في الحقيقة تورط شركاتهم في هذا الفساد، وليس تورطهم الشخصي المباشر؛ وهذا سيحيلنا إلى قضايا أخرى مهمة، هي المسؤولية الجنائية للشخصية المعنوية؛ فمن المعروف قانونًا أن أي شركة تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن مالكها، وأنها بالتالي تكون هي الوحيدة المساءلة جنائيًّا، وليس صاحب رأس المال؛ ما يحيلنا إلى مسألة جرائم الشركات. ويلاحَظ أن نظام الشركات لعام 1437 - 2015 قد ألقى بعبء المسؤولية في جرائم الشركات بالكامل على الأشخاص الطبيعيين في الباب الحادي عشر، أي أن نظام الشركات لم يتجه إلى التطور الجديد في السياسة الجنائية فيما يخص جرائم الشخصية المعنوية، وهو التطور الذي بدأ بتوقيع جزاءات على الشركة، تختلف عن العقوبات التي توقع على الأشخاص الطبيعيين، وإن كانت تؤدي الهدف النهائي منها. فمثلاً: يتم تصفية الشركة كعقوبة شبيهة بالإعدام، أو توقيع غرامة على الشركة، أو إيقاف نشاط الشركة مؤقتًا كعقوبة شبيهة بالسجن. ويلاحَظ أيضًا أن نظام الشركات أحال إلى أي نظام آخر كنظام مكافحة الرشوة وخلافه، وألقى العبء الأكبر على مديري الشركات، وليس على رؤساء مجلس إدارتها؛ وهذا يجعلنا نتساءل عن توقيف بعض رؤساء مجالس الشركات الكبيرة وآخرين.. إلا إن كان الأمر طبعًا يتعلق بتصرفات شخصية خارج إطار المؤسسات الاقتصادية التي يملكونها. على أية حال، فنحن نثمِّن تمامًا هذه الخطوات الواسعة تجاه الفساد، ونؤكد أن القانون السعودي والمؤسسات العدلية السعودية مؤسسات ذات شفافية عالية، وأن لكل المتهمين ضمانات وحقوقًا تحميهم من أي تعسف أو أي ظلم.. وفَّق الله سمو خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد في هذا الانطلاق القوي نحو تحقيق رؤية 2030 بإذن الله.