قدمت لنا الكاتبة كارسن ماكالرز رواية تعبر عن الأدب الأمريكي، صادرة عن دار مسكيلياني والتي نقلها إلى العربية المترجم علي المجنوني. تتميز الرواية بأنها مكانية بامتياز، إذ تصف لنا مقهى ازدهر في ظروف غير عادية في بلدة كان يغلب على سمائها الكآبة، ومن هنا يتضح لنا التعبيرات المثقلة الوصف والتي تعج بين الصفحات، وبالرغم من أن الوصف الدقيق قد يصيب القارئ بالملل إلا أن كارسن أجادت رصانة العمل الذي يشد القارئ حتى نهايته. تدور الرواية حول وصف سيكولوجية الإنسان وخاصة فيما يتعلق بسلوكه وعلاقاته مع الآخرين، وبناءً على ذلك لعبت الكاتبة على أكثر من محور وأحسنت تضمينه في روايتها التي تقع في 95 صفحة، فتطرقت لعلاقة المحبوب بالمحب، وكيف أن المحب ليس بالضرورة أن يكون شابًا يدخر ماله من أجل خاتم للزواج، بل إن المحب قد يكون رجلاً أو امرأة أو طفلًا أو أي مخلوق على وجه الأرض. كما أن أثر الحب على حياة الفرد كان واضحاً بتجلٍ على إحدى شخصيات الرواية، لأن الحب يقلب الموازين، يجعل الأمور تجري في طرقات مغايرة عما كانت عليه، فأحيانًا تُصيب الوجهة، وأحيانًا كثيرة تحيد عن ذلك. شخصية مارفن جسدت لنا ذلك، فمارفن الذي أحب أميليا «البطلة» دون أن يبوح لها، غيره ذلك إلى الأفضل في جوانب عدة حتى يستميلها كما عبرت الكاتبة وقالت» لقد أصلح نفسه كليًا، فصار طيبًا مع أخيه وأمه التي تبنته، وادخر أجوره إذ تعلم التدبير.علاوة على ذلك مد إلى الله وصلاه. لم يعد يستلقي على أرض الشرفة الأمامية طوال اليوم يغني ويعزف قيثارته، بل أخذ يرتاد قداس الكنيسة ويحضر كل الاجتماعات الدينية. تعلم الآداب الحسنة، درب نفسه على أن ينهض من مكانه ويقدم كرسيه لسيدة، كما أقلع عن الشتم والعراك وهجر استخدام الأسماء المقدسة في لغو الكلام». «عندما تكون قد عشت طويلًا مع أحد، إنه عذاب شديد أن تضطر إلى العيش وحيدًا» هكذا عبرت ماكالرز عن فلسفة الوحدة وضرورة حياة الفرد ضمن جماعة، لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى التفاعل الاجتماعي ولا يفضل العزلة إلا في حالات معينة تكون باختيار الفرد ذاته لا فرضًا عليه، والأخير تلك هي الصورة التي عاشتها البطلة بعدما رحل الأحدب البطل الدخيل عليها والذي قلب حياتها رأسًا على عقب. بداية الرواية تجسد كآبة البلدة التي تدور الأحداث فيها، حيث وصفت بأنها بلدة معزولة وحزينة وتشبه مكانًا قصيًا مغتربًا عن سائر الأماكن الأخرى في العالم، وكيف أن ذلك أثر في الشخصيات مما جعلهم غريبي الطِباع، يميلون إلى السوداوية ذاتها للمكان، لكن بعد أكثر من منتصف الرواية، انعكس هذا كله بعدما هبط الثلج لأول مرة على البلدة مما أثار البهجة والدهشة على حد سواء ودعا أهل البلدة الإسراف في قول «شكرًا» و «من فضلك» أكثر من اللازم. وهذا يوضح لنا أن للمكان وحالته أثراً كبيراً على الفرد، إذ يتحكم بتصرفاته بشكل كبير. في الصفحات قبيل الأخيرة؛ كان للموسيقى وأثرها نصيب من التضمين، فوصفت الكاتبة بأنها تجعل القلب يتسع وأن المستمع يضعف من النشوة، ثم بطيئًا تغوص الموسيقى بداخله ليبقى في نهاية الصوت وحيداً، وكما هو حال الصوت، تُركت البطلة وحيدة لتجسد لنا فظاعة الطبيعة الإنسانية للبعض. ** **