كتاب (عروق الذهب...دراسة لجماليات النقد الأدبي) الصادر عن نادي تبوك الأدبي، بالاشتراك مع (مؤسسة الانتشار العربي) ببيروت، عام 1437ه / 2016م لمؤلفه الدكتور/ سعود بن سليمان اليوسف. توطئة: هذا الكتاب الموجود بين يدي القارئ الآن، بعدد صفحاته التي تقارب 600 صفحة من القطع العادي، الغزير بمادته وتفرعاتها، وأهمية ما جاء بين دفتيه، كان – في الأصل – عبارة عن أطروحة علمية، أو رسالة (دكتوراه) تقدم بها المؤلف لإحدى الجامعات السعودية، لينال بموجبها هذه الدرجة العلمية. إنه دراسة علمية أدبية، تجمع فيما بين النقد من منظور (علمي) من جهة وبين الأدب من منظور (فني جمالي) من جهة أخرى، ويفسر العلاقة القائمة بينهما ومفاهيمها وأبعادها ومعاييرها، وتلك الفواصل والقواسم المشتركة بين كل منهما. إطلالة عابرة على المسار التاريخي للنقد العربي، ومراحل تطوره: عرف العرب (النقد) وارتبط هذا اللفظ عندهم بالذائقتين: اللغوية ببعدها الحقيقي والدلالي (الدال والمدلول)، والأدبية بأبعادها الجمالية والمجازية والانزياحية – وخاصة الشعر منها – منذ القدم، حتى الوقت الحالي حين تطور (النقد الأدبي الحديث) وانتقل من الإطار الضيق لهذه الكلمة، والذي كان محصورا سابقا في معنى محدد - كما هو المعنى اللغوي لكلمة (نقد) التي تعني – في الأصل – انتقاد الشيء، أو شخص ما، أي التعريض به بشكل يوحي بانتقاصه، أو محاولة جعله عرضة للوم الآخرين، وعدم رضاهم عنه، إلى أن اتخذ معناه (الاصطلاحي) الجديد مع مرور الزمن ليصبح أوسع دلالة وأكثر شمولية من ذي قبل، حيث صار علما مستقلا بذاته، له رؤاه ومناهجه ومدارسه وأدواته وفنياته الخاصة به. إذن... من هذا المنطلق لم تعد كلمة (نقد) في خطابنا الأدبي المعاصر كلمة مخيفة، أو مثيرة للقلق والاشمئزاز بالنسبة لأي مبدع يحاول أن يسلك طريق الإبداع الأدبي، بشقيه : الشعري والنثري، كما كان مدلولها في تراثنا العربي القديم، وإنما ساهم كبار النقاد في العصر الحديث، وغيرهم من المثقفين والمفكرين، سواء كانوا عربا أو أجانب ب (تلطيف أو تهذيب) معنى هذه المفردة، و(أدلجتها) وإعطائها مدلولات كثيرة، أبعد نظرا، وأوسع أفقا، مما جعل وقعها وأثرها على القارئ أو السامع أو المتكلم أقل حدة مما كانت عليه قديما. ولا شك أن هذا الأمر قد استغرق وقتا طويلا، حتى تم تعميمه وتداوله في الأوساط الثقافية، كما تطلب أيضا من هؤلاء النقاد والمثقفين مجهودا كبيرا، في سبيل تحرير المصطلح النقدي من ربقة خصوصيته الضيقة، ومدلولها التقليدي المعيب في ذهنية المتلقي العربي في الوقت الحالي، وتوعيته توعية صحيحة وسليمة بمعنى كلمة (نقد) ومعاييرها العلمية والمنهجية، وأبعادها اللغوية، وظلالها الفنية، وحقولها الدلالية. هذا مع العلم أنه ما زالت -حتى الآن- هناك حساسية من هذه الكلمة، يعاني منها المبدع والمتلقي العربي على حد سواء، لاعتقاد كثير من هؤلاء بأن (النقد) يقابل بمعناه اللغوي (العيب) أو وجود خلل في النص الأدبي، مما يوجب انتقاصه، أو التقليل من شأنه! ولو تتبعنا المسار التاريخي للنقد في أدبيات تراثنا العربي القديم – في العصر الجاهلي مثلا - لوجدناه خطابا شفهيا، بسيطا ومباشرا في لغته، ركز – بمجمله – على علاقة اللفظ بالمعنى، كما تمثل لنا – في أبسط صورة له – بالبيت المشهور لحسان بن ثابت حين قال مفتخرا: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقد انتقد النابغة الذبياني حسان حول ما ورد ببيته هذا - كما رواه لنا أخباريو العرب القدامى – محتجا عليه بأنه لم يحسن التعبير واختيار الألفاظ المناسبة المعبرة تعبيرا صحيحا عن المعنى المقصود، أو لم يضع الألفاظ في موضعها الصحيح، من سياق الكلام، وأخذ عليه قوله (جفنات) بدلا من جفان( جمع الكثرة) وهو الأصح، وقوله (الغر) بدلا من (البيض) وقوله (يلمعن) بدلا من (يبرقن) وقوله (يقطرن) بدلا من قوله (يسلن) وهكذا ... والقصة معروفة للجميع. ومن هذا الموقف وما شابهه من مناظرات خطباء العرب وبلغائهم وحجاجهم لبعضهم، ومساجلات شعرائهم فيما بينهم (كالنقائض الشعرية المتبادلة بين جرير والفرزدق مثلا) ارتبط مفهوم النقد في بداياته الأولى ارتباطا مريبا بذاكرة المجتمع العربي، وكانت الصفة الغالبة عليه هي القدح في الكلام أو القول لوجود علة فيه، سواء كان شعرا أو نثرا، وليس الإطراء والتقريظ! ومن هنا بدت كلمة (نقد) عند العرب في ذلك الزمان وكأنها منصرفة في معناها للدلالة على العيوب، وليس على المحاسن! أما فيما تلا ذلك من العصور - خاصة القرون الهجرية الأربعة الأولى – فقد تطور الخطاب النقدي العربي بعض الشيء، بل كان أكثر وضوحا ونضجا لدى انتقال الأدب من مرحلة (المشافهة) إلى مرحلة (التدوين) حيث صار النقد يتناول قضايا أدبية ولغوية جديدة، مثل : السرقات الشعرية، وقضية الإعجاز، وقضية الطبع والصنعة، وقضية الأفضلية بين الشعر والنثر، وغيرها. ولذلك اتسم نقدنا الأدبي القديم في تلك الحقب الزمنية باتساع رؤيته وأطره، وتطور أدواته وفنياته، وصار معيارا هاما، له أسسه بتفحص بنية الكلم ) المنطوق والمكتوب) وخصائصها، وتفاوت مستويات النصوص الأدبية بين الجودة والرداءة، وغلبت على سماته العامة الحكم عليها بألفاظ مباشرة ناتجة - أساسا - عن حس ذاتي غير مؤسس(انطباعي، تفسيري ذاتي)، حتى شاع في ذلك الزمان بين المهتمين استخدام مفردات نقدية معينة، اتخذت شكل المصطلح النقدي عبر الأجيال، وكانت لها دلالاتها النقدية المعروفة للحكم على النص، مثل: الوهن أو الضعف في المعنى، وعيوب المعاني والقوافي، والتضمين والاقتباس والانتحال، والائتلاف والمشاكلة، والمحسنات اللفظية، والتشطير، وبراعة الاستهلال، وسرعة الخاطر، والوحشي من الألفاظ، وغريبها وأعجميها وفصيحها، والمستحسن والمستقبح...الخ. ويتمثل لنا ذلك بنماذج معروفة من تراثنا العربي القديم، أهمها : كتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، وكتاب (معيار الشعر) لابن طباطبا، وكتاب (الموازنة) للآمدي، وكتاب (الوساطة) للقاضي الجرجاني وكتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي، وكتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة و(كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري. وفي كلاسيكيات أدبنا العربي خلال القرنين: التاسع عشر والعشرين – تحديدا - تطور النقد الأدبي تطورا فاق جميع العصور التي مر بها، ولا شك أن للترجمة وتعلم اللغات و(دراسة الآداب المقارنة) وعلاقتها بأدبنا العربي، وانفتاح المجتمع العربي وثقافته في العصر الحديث على المجتمعات الأخرى وثقافاتها وتأثير كل منها على الآخر الدور الأكبر في هذا التطور، حتى تعددت مفاهيم النقد، وتنوعت أشكاله وأساليبه، ورؤاه ومناهجه ومدارسه، وتعقدت بنيته وعناصره التي تناولت جميع ما يمت للإنتاج الأدبي والابداعي الانساني بصلة (النص ولغته والمبدع والناقد والمتلقي والبيئة المحيطة) حتى تداخل مع غيره من فنون الإبداع الأخرى وعلومها التي عرفها الإنسان، كعلم اللغة بكافة فروعه وعلوم النفس والاجتماع والتاريخ، والتراجم والسير. وهذا التداخل جعله محل نزاع وخلاف بين المهتمين وذوي الاختصاص لمعرفة كنهه، وجعله عرضة للوقوع في إشكاليات جديدة لم تكن معروفة من قبل، مثل : (التصنيف المعرفي) لهذا الحقل و(التجنيس) و(إشكالية المصطلح) الناتجة – غالبا- عن الترجمة والنقل من اللغات الأخرى، وأخطائها، أو عدم دقتها. وهذا كله – بمجمله – أدى - بالتالي - إلى نشوء مدارس النقد الأدبي العالمي الحديث والمعاصر المعروفة: كالبنيوية والتفكيكية والسيميائية والأسلوبية وغيرها. بل بلغ الأمر ذروته من التعقيد حين تناول النقد جوانب أكثر تعقيدا في تراكيبها وأعمق غورا، وأوسع أفقا وتوغل بالولوج إلى تفاصيلها ومعالجتها حتى نشأ عن ذلك مصطلحات جديدة في النقد المعاصر، مثل (نقد النقد)و(النقد الثقافي) و(النقد المعرفي) متجاوزا شعرية النص الأدبي ولغته وجمالياتها، ليركز على البحث عن الوعي الإنساني ومكامن وجوده في أعماق النفس البشرية، عن طريق استعانته بشتى العلوم والمعارف الإنسانية، وتفحص المنجزات الثقافية والتراثية والنتاج الحضاري لأي أمة من الأمم، ولعل من أبرز هذه الاتجاهات النقدية المعاصرة ما تناوله الدكتور عبدالله الغذامي بكتابه الموسوم ب (النقد الثقافي). بين يدي (عروق الذهب): يأتي هذا الكتاب (عروق الذهب) للدكتور/ سعود اليوسف ليساهم – من جديد - مساهمة فاعلة في إيجاد صياغة جديدة ل( مفهوم النقد الأدبي) واكتشاف جمالياته، برؤية حديثة، تتعامل مع النتاج الإبداعي، المنطوق منه والمكتوب تعاملا يحترم التجارب الابداعية وفق منهجية معينة ومتوازنة، تحتفي بالمهارات الإنسانية، مهما كان مستواها من الجودة والرداءة، وترتقي بها عن أن تكون مجرد مادة مطروحة، تحمل في تكوينها ما هو عرضة للقبول أو الرفض من قبل عامة الناس، وما اعتاده الذوق العام لهم، لتكون أسمى من ذلك، لدى نظر الناقد إليها من جوانب جمالية وإنسانية مختلفة، وقد لا تعزل – أحيانا - النص عن كاتبه، أو تجعله بمنأى عنه، ولا تهمش وجود أي من الطرفين على حساب وجود الآخر، وانما تعتبر (التجربة الابداعية) بحد ذاتها، ومهما كانت قيمتها وصفتها خطوة جريئة وجادة – مبدئيا- في طريق المبدع، والمواهب الجديدة نحو سلوك منهج تجريبي يخصها، ليس من المهم معايرته، أو فحصه لتحديد منزلته من الجودة أو الرداءة من عدمهما، بل الأهم من ذلك - وقبل كل شيء - أن ينظر إليه الناقد على أنه نتاج إنساني له (جمالياته) ولا تخلو مادته من عبق مشاعر الإنسان، وإحساسه الصادق بما حوله، وهو جدير بالاحترام من قبل الجميع، حتى وأن أساء التعبير للآخرين عن أحاسيسه وعواطفه، وما يعتمل في نفسه ومخيلته وعن وجوده كإنسان في هذا الكون، أو لم يحسن إيصال ما يريد أن يقوله لمحيطه بالشكل المطلوب، فقد صدق بمشاعره وإن كان مخطئا بتعبيره عنها، فأحسن في الأولى لأنها مطلب ضروري، وعذر في الثانية لوقوعه فيها كخطأ عفوي رغم اجتهاده في الوصول للمعنى المقصود. وفي كلتا الحالتين يظل المعول عليه – في نهاية الأمر – هو رأي الناقد أثناء تمعنه للنص المنقود، والبحث عن ذاته بين ثناياه، وكيفية تناوله له، وليس محاكمة النص نفسه، في محاولة لتقييم ما جاء فيه، من القبول والرضا، أو الرفض وعدم الاستحسان. ومن هنا جاءت عبارة (دراسة لجماليات النقد الأدبي) كعنوان فرعي لمحتوى هذا الكتاب، لتجمع في سياقها بين كلمتين متنافرتين بمعنييهما، هما كلمة (جماليات) وكلمة (نقد) وهي صياغة مستحدثة لم يعرفها موروثنا الأدبي وتراثنا العربي إلا في عصوره المتأخرة، حيث ما زالت بعض رواسب هذا الموروث متبقية في ذهن المتلقي العربي لقرون طويلة- كما سبق لنا ذكره - حتى الوقت الراهن، لاعتباره (الجمال) منافيا ل (النقد) كمفردتين، تحمل أولاهما صفة إيجابية، بينما تحمل الثانية منهما صفة سلبية. ويتضح لنا ذلك في كثير مما أورده الباحث في كتابه هذا من نماذج لتراثنا العربي – بقديمه وحديثه - تقاطع فيها النقد مع الأدب، وامتزجا ببعضهما إلى درجة التماهي، حتى كان من الصعب – أحيانا – تمييز الحدود الفاصلة بينهما، مستشهدا ومستندا خلال ذلك إلى آراء علماء اللغة وفقهائها وأدبائها حول هذه المسألة، المشحونة بجدلية الاتفاق والاختلاف والتداخل بين النقد والأدب، وإلى أي مدى يمكننا وصف هذا التداخل – إن وجد بينهما – في بعض النصوص ؟ وكيف يمكننا نسبة أحدهما إلى الآخر على سبيل التغليب؟ أيصح مثلا أن نقول :( النقد الأدبي) ؟أم نقول :( الأدب النقدي؟) إذا رأينا ترجيح الروح النقدية في النص المدروس لطغيانها على الروح الأدبية فيه؟ أو العكس، حتى يمكننا بناء على ذلك تحديد (الهوية الجنسية أو المعرفية) لمثل هذه النصوص المتداخلة: علم ؟ أدب؟ فن؟ إبداع؟ أم أنه خليط من هذا كله؟ ولقد ركز الباحث/ المؤلف في كتابه هذا على تلك الجوانب الجمالية التي ينبغي عليه – كناقد أو باحث – أن يتحراها وينظر إليها أثناء تفحصه للنصوص، ومنحها أولوية الاهتمام، وكيفية تناوله ومعالجته لها، وكأن المعني بها – بالمقام الأول- الناقد نفسه دون غيره، وليس النص ولا لغته، ولا حتى كاتبه ولا المتلقي أو الجمهور. ومن أهم المسائل التي تطرق إليها (اليوسف) بكتابه هذا علاقة النقد – كعلم – بالأدب – كفن – وتداخلهما، وأهمية كل منهما بالنسبة إلى الآخر، والمقارنة بينهما، وتبيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين هذا وذاك، ومفهوم( الأدبية) و (الأدبية والشعرية) و(الخطاب النقدي) وهل يمكن اعتبار النقد ضربا من ضروب الإبداع الأدبي؟ أم انه علم مستقل بذاته، له أسسه ومبادئه، كغيره من علوم اللغة الأخرى، يهتم بالحقيقة والموضوعية المجردة، بعيدا عن (المجازية) كعلوم اللغة العربية المعروفة، من نحو وصرف، وعلم العروض، والمعاني، والإنشاء، والخط، والبيان، وغيرها؟ أم أنه خليط من هذا كله؟ أم ماذا؟ وقد أشار اليوسف في مقدمة الكتاب إلى هذه النقطة حول (تجنيس النقد) بقوله: «وقد كان اختياري لهذا الموضوع نظرا إلى ما ينطوي عليه النقد الأدبي العربي من وجوه إبداعية. فقد زخرت القرون الأربعة الأولى للهجرة بحركة نقدية غزيرة، كان اللافت للنظر فيها الأدبية التي اتسم بها الخطاب النقدي، فمعظم النقد كان ضربا من ضروب الإبداع، لأن موضوعه دراسة الأدب، ولأن كتابته نفسها تندرج ضمن أنواع الأدب، وبخاصة أن معظم ما وصل إلينا من نقد صاغه النقاد بلغة أدبية، لوعيهم أن النقد إبداع قبل أن يكون محاكمة أو تحليلا، وهو نصوص أدبية متعتها لا تقل عن فائدتها» . المقدمة: ص 13+ص14. ففي قوله كما مر بنا أعلاه (...فمعظم النقد كان ضربا من ضروب الإبداع...) لم يقل (كله) وإنما قال (معظمه) يعني أن النقد - في بعض صوره - كان وما يزال حتى الآن موضع خلاف بين كثير من رجال العلم والأدب من حيث تجنيسه المعرفي، وإلى أي حقل من حقول المعارف الإنسانية ينتمي أو يمكننا نسبته إليه، وإن كان يعتبر أدبا – فعلا – لتوافر بعض الملامح الأدبية في لغته وشكله ومضمونه فإلى أي نوع من أنواع الأدب يمكننا نسبته؟. وفي قوله أيضا كما مر بنا (..أن النقد إبداع قبل أن يكون محاكمة أو تحليلا ..) إشارة واضحة لضرورة التمييز بين الروح المبدعة للناقد من جهة، وفصلها أو استقلاليتها عن الروح المبدعة للنص المنقود وكاتبه، وازدواجيتهما إذا ما اجتمعا في نص واحد. ومثال ذلك (ما جاء بكتاب الموازنة للآمدي حين وازن بين أبي تمام والبحتري). فإن كان الكاتب يعتقد أن من حقه أن يكتب ما يشاء، تعبيرا عما يشعر به، ويؤمن بصحته، مهما كانت صفة هذا التعبير، ومنزلتها من الجودة والرداءة، متجردا – أثناء الكتابة - من شعوره بالرقابة على فكره، أو إحساسه بفرض نوع من المحاكمة على قلمه، أو محاسبته على ما يكتبه، ومن منطلق (ماذا أكتب؟ ولماذا؟ وكيف ؟ وأين؟ ومتى؟) فإن الناقد – في مقابل ذلك – يرى الأجدى والأولى به أن يسأل نفسه السؤال الأهم، ألا وهو: (أين موقعي المناسب، الذي ينبغي علي أن اتخذه حين أتمعن بقراءة نص ما ؟.هل أنا خارج دائرة هذا النص؟ أو بين أقواس كتابته؟ أم ترى أن موقعي بين بين؟ وكيف أقرؤه كلما اختلفت الزاوية التي أنظر إليه من خلالها نتيجة لتغير موقعي منه في كل حالة على حدة ؟وبغض النظر عن رأي كاتب النص نفسه فيما يكتبه، وكذلك رأي المتلقي أو الجمهور. وتبدو المسألة هنا أكثر تعقيدا حين يتداخل النقد مع الأجناس الأدبية الأخرى، من شعر ونثر، حيث نجد – في هذه الحالة – أننا أمام مسألة أخرى هي مسألة (تداخل الأجناس) ببعضها، مثل : تداخل العلم مع الأدب، فيما يعرف ب «الأسلوب العلمي المتأدب» وكما يتمثل لنا ب «أدب الخيال العلمي» أو دخول الرواية بالمسرح، أو النثر بالشعر، أو المقالة بالقصة أو العكس مما يجعل المختصين تجاهها مختلفين حول ماهية التداخل بين هذه الأجناس، ومعرفة كنهه، والقواسم المشتركة بينها وحدودها، والضوابط التي يمكننا بموجبها تجنيس هذا الخليط المركب للنص محل الدراسة وفرز مادته، للتمييز بين ما هو علمي وما هو أدبي، بين امعنى الأصلي للمفردة وحقله الدلالي، وبين المعنى الانزياحي لها، بين ما هو حقيقي وما هو مجازي، بين الحسي والمعنوي، بين الواقعي والمتخيل، بين الموضوعية والذاتية، بين (الذاتية: الناقد) نفسه، وبين الآخر (الغيري: المنقود) ... الخ. ومن ثم نستطيع بموجب هذا الفرز المعرفي لتركيبة النص المنقود الوصول إلى تعريف واضح متكامل له، يجمع فيما بين العلمي الموضوعي المجرد، والأدبي الإنساني الجمالي في آن واحد. وقد أشار الباحث/ المؤلف الى هذه النقطة في الفصل الرابع من الكتاب، فيما عنونه ب « تداخل الخطاب النقدي مع الأجناس الأدبية» بقوله: «والذي تعنيه عبارة تداخل الأجناس هنا هو النقد الذي يأتي في قالب جنس أدبي آخر، كالنقد في سياق الشعر، أو المقامة، ونحوهما، فهو مناط النقد الحديث الذي كشف عن هدم كثير من التخوم بين الأجناس الأدبية، وهيأ للنقد أرضا خصبة للإبداع، ووجدنا من خلالها أن النقد أشرب شيئا من سمات الإبداع، فصار بهوية جديدة اسمها النقد الإبداعي». الكتاب: ص301 ويؤكد لنا المؤلف في الموضع نفسه أن مسألة «تداخل الأجناس» وإن كانت تعتريها بعض الإشكاليات فهي ليست قضية بحد ذاتها، وليست سيئة على أي حال، وانما هي مسألة لها جمالياتها أيضا، ومن هنا بدأت أهمية «دراسة الجنس الأدبي، وتداخله مع الأجناس الأدبية الأخرى». الكتاب: ص301. ويضيف قائلا بهذا الصدد، نقلا عما أورده محمد القاضي بكتابه» معجم السرديات»: أن «الجنس مؤسسة أدبية تصل بين المؤلف والقارئ، وتشرح لهما سياق التواصل بينهما، فالجنس نموذج كتابة للمؤلف، وأفق انتظار القارئ». الكتاب: ص301. ويخلص المؤلف في نهاية حديثه عن « تداخل الأجناس» إلى نتيجة مؤداها أن « النقد الأدبي واحد من أجناس الأدب النثرية، وتتيح دراسة تداخله مع الأجناس الأدبية الأخرى رصد التطور الداخلي للخطاب النقدي، كما أنها تكشف عن جمالية الأجناس في ذاتها، وأثر تداخلها في المستوى الفني...» . الكتاب : ص302. وأقول – عموما - أن النقد متى ما ظهرت فيه روح الناقد وعكس شيئا من مشاعره وعواطفه للقارئ أثناء استعراضه للنص المنقود وتحليله فهو يعتبر لونا من ألوان الابداع، وهذا ما صار يعرف في أدبنا الحديث باسم (النقد الإبداعي) كما سبق ذكره. ومهما اختلف المختصون وذوو الاهتمام فيما بينهم على تجنيسه فإن ذلك لا ينفي عنه صفة الإبداع إطلاقا، مهما كان جنسه، لتصبح مسألة التجنيس هنا مسألة ثانوية، بينما تظل مسألة الابداع لها أولويتها هنا، مهما كان شكلها ومضمونها، لأن السؤال الذي يطرح نفسه – في مثل هذه الحالة والأحرى بنا أن نعرف الإجابة المستوفاة عنه – هو : هل النص المدروس تتوافر فيه سمات «النقد الإبداعي» ؟ أم لا؟ ولماذا؟ أما سؤالنا عن جنسه فهو لا يهمنا كثيرا! لكوننا نناقش هنا مسألة وجود إبداع من عدمه، بغض النظر عن جنسه. أما فيما يتعلق ب (الخطاب) وارتباطه ب (النقد) ففي التمهيد الذي وضعه (اليوسف) لكتابه هذا – كمدخل هام لتعريف القراء بمادته ليسهل عليهم الإلمام بما يتحدث عنه بشكل واضح وميسر – يتطرق ل (مفهوم الخطاب النقدي) قائلا: «شاع مصطلح الخطاب النقدي في الدراسات المعاصرة شيوعا جعله مشحونا بجملة من المفاهيم والحدود، فأصبح لكل مجال من مجالات الحياة خطاب، وصارت عبارة الخطاب السياسي، والخطاب الديني، والخطاب الثقافي تطرق مسامعنا، وتتداول في الصحف بكثرة، وهذا التداول للمصطلح يستدعي شرح مفهومه الذي مر بمراحل من التطور إلى أن استقام مصطلحا واضح الدلالة، متميز الحدود». الكتاب: ص23. ويستأنف المؤلف/ الباحث هنا حديثه في الموضع نفسه من الكتاب، متحدثا بشكل تفصيلي مسهب عن كلمة (خطاب) ابتداء من جذر هذه الكلمة، في مادة (خ ط ب) ومعناها الأصلي، أو مدلولها اللغوي الحقيقي الذي وضعت له في أصل اللغة كمفردة، بالإضافة إلى تتبعه لمراحل التطور المختلفة التي مرت بها هذه المفردة، حتى انتقلت من خصوصيتها الضيقة التي كانت محصورة فيها الى معاني أخرى، أوسع دلالة، وأكثر شمولية، وانتهاء بآخر ما وصلت إليه من تطور، حيث شاع استخدامها – كمصطلح – له دلالاته المعروفة في الوقت الراهن. وفي ختام حديثي عن هذا الكتاب ومؤلفه أقول: لا أزعم – خلال قراءتي الموجزة هذه له - أني قد ألممت بكل ما جاء فيه من شاردة وواردة، نظرا لكبر حجمه وغزارة مادته وتفرعاتها، والعلمية التي اتسمت بها لغة الباحث – كأكاديمي - وأسلوبه، ومنهجيته، والتي ليس من السهل على عامة القراء الإلمام بها، إلا لذوي الاختصاص أو الاهتمام . وهذه الصفة هي ما جعلت هذا الكتاب يبدو وكأنه موجه للنخبة دون العامة، وهو أمر طبيعي لا بد أن يغلب على كتاب كان في الأصل عبارة عن رسالة «دكتوراه» أعدت للنقاش من قبل جهة أكاديمية متخصصة، وليست رسالة موجهة لجمهور الناس. لكن أعتقد أني قد قدمت عنه ما بوسعي أن أقدمه، حيث ان قراءتي له جاءت على شكل انطباع ذاتي، أفرغته على الورق بعد انتهائي من تصفحه وتنقلي فيما بين سطوره، والتمعن فيما جاء بين دفتيه، قد أكون فيه مصيبا أو مخطئا، وليست تقييما له، أو محاكمة لما جاء فيه. كما أعتقد أيضا أن الباحث / المؤلف كان موفقا جدا فيما طرحه في (عروق الذهب)، واختياره لهذا العنوان الجذاب الذي استوحاه من التراث العربي القديم من قصة جمعت بين (الامام المبرد والبحتري الشاعر) تقارن بين موقف (الناقد) المبرد والشاعر أو المبدع (البحتري)، وهو المنهج ذاته الذي سلكه الدكتور سعود اليوسف من خلال كتابه هذا كناقد، لما يستعرضه من نصوص. ثم انه كذلك قد أثرى مادة الكتاب بالبحث والنقاش والتحليل المستفيض، مستندا إلى مئات المصادر والمراجع تجاه كل ما يمت لموضوع (النقد والأدب) وعلاقتهما ببعض بصلة، كما يتضح لنا في صفحة المراجع منه، حيث يبدو لنا أنه قد بذل مجهودا كبيرا، ربما استغرق أيضا وقتا طويلا لاستيفاء هذا الموضوع من كافة جوانبه – جملة وتفصيلا - يضاف إلى ذلك ما اتسم به الموضوع الرئيس للكتاب من الجدة وطرافة الفكرة، والابتكار، وما امتاز به الباحث من سعة الأفق اللغوي والعلمي والثقافي والمعرفي، واتصاف أسلوبه بالوضوح والموضوعية المتجردة، ورؤيته بالعمق، وبعد النظر.