الممر المؤدي للحجرة الباردة تصمت فيه المقاعد بصمت الجالسين في انتظار انفراج بابها, لا ترى غير حركة رؤوس تتحرك جيئة وذهاباً من نافذة زجاجية صغيرة في الباب بالكاد تمكن من رؤية جزء من ستارة عريضة تفصل بين الأَسِرَّة المختلية بالراقدين فوقها, الأجهزة الملتفة بأنابيبها حول زنودهم, والكمامات على أنوفهم, وتلك الوسائد البيضاء تحن على رؤوسهم, أنين بعضهم يخترق الجوف, صمت بعضهم يقلق المنتظرين خارجها, وأنا جئت لأتفقد نبضاً مني هنا.. داخل بابها, خلف ستارتها, فوق سرير فيها, لا يصلني صوت, ولا خبر صمت..!! ينفرج الباب, متوشحة بالأخضر تمرق بسرعة: عاجلتها سيدتي, يمكنني الدخول..؟ هزت رأسها بالنفي, ومضت, لا تعبأ بناري.. آخر يدلف إليها بعد أن عالج إصبعه جرساً في زاوية تجاوره, قد وضع جواره تنبيه : « للمصرح لهم فقط» !! لم يكن لي أن أفعل مثله, كظمت قلقي, فلست ممن يصرح لهم.. «اللمبة» المعتلية رأس الباب تتباهى بحمرتها, كلما ازداد المكان برودة, واستطال الممر بطول الصبر, تدلّت أعناق بعض الجالسين في الانتظار, يرتفع صوت شخير أحدهم, وآخران ذهبا ثم عادا بكوبين تحلق عنهما أبخرة القهوة, وشاع في المكان زخم رائحتها, يا الله رأسي يدور, خالجت نفسي رغبة في كوب قهوة !! طافت بي ممرات الطائرة, والنادلة الأنيقة تقدمها لي وقد انفرجت شفتاها المصبوغتين بالحمرة عن ابتسامة .. عدت أناظر حمرة «اللمبة» على رأس الباب.. اللون واحد, فثمة نار تجمع بينهما في حرقة القلق داخل صدري, وشعاع نورها .. تنهدت, وقد أدركت أنني في الانتظار وهم, هؤلاء جميعهم من يسترخي فيهم, من يرتشف القهوة منهم, والنائم يشخر بينهم, والقلق يقطع الممر ذهاباً, وإياباً وقد تلمظ وجهه توجساً وخوفاً, كل المضطربين هنا, وأنا أيضاً, لون أحمر يجمعنا !!.. نتلهف نداء يردنا بمائه من داخلها يبرد قلقنا, ينهي انتظارنا, يطمئن خوفنا, يطفئ لهيباً في صدورنا.. ساعات كما حلزونية الأفعى مرت, انفرج الباب, وثمة كف امتدت إليّ بكوب القهوة , وضعته خارجه , وحين خرجت منه للممر ذاته, كانت القهوة قد بردت في كوبها, تماماً كما برد قلقي, أومأت بالشكر لمن أحضرها, استعرت ابتسامة المضيفة في الطائرة, ومضيت.!!