هذا المقال يناقش العناصر الخمسة التالية: 1 - حال الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبدالعزيز للبلاد. 2 - وضع الحرمين الشريفين قبل دخولهما تحت نفوذ الملك عبدالعزيز وسلطانه. 3 - عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب الأمنية. 4 - عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب العلمية. 5 - عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب المعمارية. إن مما لا شك فيه ولا ريب، أن عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين وتحقيق الأمن فيهما لا يخفى على الصغير فضلا عن الكبير، ولا على الجاهل فضلا عن المتعلم، ولا على القاصي فضلا عن الداني، فالعالم الآن أصبح مكشوفاً للجميع؛ يستطيع الشخص أن يقف على الحدث بصورة مباشرة من خلال وسائل الاتصال الحديثة، وعناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين واضحة البيان، ظاهرة للعيان على مدار الساعة، وهذا ليس بغريب أو عجيب من دولة قامت على أساس التوحيد لله تعالى، وتحكيم شرعه وتعظيم شعائره، ولم تقم على أُسس مادية أو عرقية أو قومية. ومن هنا يجدر بنا الوقوف على الحال السائدة في الجزيرة العربية قبل ظهور ما يُعرف ب «المملكة العربية السعودية» وبعده؛ حتى ندرك حقيقة الواقع في ذلك الوقت، ويظهر الفرق بين الحالين، وكما قيل: والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذا ما سوف نتناوله في العنصر التالي: العنصر الأول: حال الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبدالعزيز للبلاد. كانت الحالة السائدة في الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبدالعزيز لذلك الكيان العظيم الذي عُرف فيما بعد ب»المملكة العربية السعودية»، تعاني من الفوضوية والاضطراب، وانعدام الأمن وعدم الاستقرار، وظهور الفقر وفشو الجهل والأمراض، وأحياناً تحلُّ بالناس مجاعات تبلغ من القوة درجة أن بعضهم يأكل العشب وأوراق الشجر، وجلود الحيوانات، الأمر الذي حمل البعض إلى الهجرة خارج البلاد من أجل الحصول على القوت، ناهيك عن كثرة اللصوص وانتشار قطَّاع الطرق الذين كانوا يهاجمون قوافل المسافرين، وخصوصاً حجاج بيت الله الحرام، ويسلبون ما معهم من المؤونة، حتى أصبح السفر إلى الحج كأنه مغامرة؛ لأنه قلَّ أن يسلم أحدٌ من تلك الظروف الصعبة، ولذا كانوا يضربون مثلاً في ذلك فيقولون: «الحاج مفقود، والعائد مولود»، ولم يكن للنفوذ العثماني آنذاك أي دور يُذكر في تحقيق الأمن بالمنطقة، حيث كان نفوذهم مقتصراً فقط على إثبات وجود لا غير، بل إن حاميات الدولة العثمانية لم تسلم من اعتداء أولئك اللصوص، وربما قامت تلك الحاميات بدفع بعض النقود الذهبية لقُطَّاع الطرق اتقاء شرهم؛ لأن الدولة العثمانية كانت آنذاك في أشدِّ مراحل ضعفها قبل سقوطها. ولما أراد الله سبحانه تعالى بأهل الجزيرة العربية خيراً، قيَّض لهم ذلك الرجل الصالح: عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، فبدَّل الله عز وجل به بعد الفرقة وحدة، وبعد الخوف أمناً، وبعد الفقر ثروة وغنى، وبعد الضعف منعة وعزة، وانقلبت الحال إلى أحسن حال، وأصبح الناس يمشون المسافات الطويلة آمنين مطمئنين، لا يخافون إلا الله تعالى والذئب على غنمهم، وأصبحت يد العدالة بالمرصاد لكل من تسوِّل له نفسه الإخلال بأمن البلاد أو الاعتداء على الآخرين، ولقد استطاع الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بعد توفيق الله تعالى وعونه ثم بحنكته الفذة وشخصيته السياسية المنبثقة من مبادئ الإسلام الحنيف أن يؤسس دولة إسلامية حضارية يسودها العدل والوئام، والأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، وكان من أهم العوامل الرئيسة التي قام بها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وكان لها بالغ الأثر في تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد عاملان رئيسيان هما: 1 - نشر العلم الشرعي بين عموم الناس، والقضاء على البدع والخرافات. لما كان العلم الشرعي مدخلا رئيسا ومقصدا عظيما لتحقيق العبودية لله تعالى، والتي بتحقيقها يتحقق الأمن والاستقرار بين المسلمين، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] من هنا حرص الملك عبدالعزيز - رحمه الله - على نشر العلم الشرعي بين أوساط الناس وخصوصاً أهل البادية؛ لما كان ينتشر بينهم الجهل الذريع والبدع والخرافات، والنهب والسلب. لقد أدرك الملك عبدالعزيز - غفر الله له - أهمية التعليم في تحقيق الرُقي والتطور والازدهار على مستوى الفرد والمجتمع، وأنَّ تقدم الأمة في مدارج الحضارات إنما يُقاس بمدى تطورها في ميادين العلم والتعليم، وكان يقول: «المدينة الصحيحة هي التقدم والرُّقي، والتقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل»، ولذا أراد أن يُواكب التطور والازدهار في كافة مجالاته العلمية بما لا يُخالف الشريعة الإسلامية، وكان من أهم الأولويات لديه: القيام بتوطين أهل البادية في القرى والهِجر المتناثرة، وتوفير المقومات الأساسية للحياة؛ حتى يكونوا قريبين من بيئة التربية والتعليم، ولكي يبتعدوا عن حياتهم الهمجية التي كانت تقوم على مبدأ القوة وتنفيذه بوسائل متعددة، كالغزو والنهب والسلب... وغير ذلك، ويتحقق الأمن والاستقرار في أرجاء البلاد، فكان هذا المشروع الحضاري بحق مشروعاً عظيماً لمحو الأمية والقضاء على الظلم والجهل والتخلف، وتثقيف الشعب وتعليمه، والصعود به إلى معارج العلم والمعرفة والرقي والتقدم، فقام بإرسال العلماء والدعاة والوعَّاظ إلى القرى والهجر لتعليم الناس وإرشادهم في أُمور دينهم ودُنياهم، وأمر بطباعة الأُلوف من المصاحف والكتب الدينية ثم وزِّعت عليهم، وكان - رحمه الله - يقول: «الناس ليسوا بشيء إلا بالله، ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة»، ولو لم يكن للملك عبدالعزيز-رحمه الله- إلا هذا العمل العظيم لكفاه مفخرةً وعزاً. ولقد ترك هذا المشروع أثراً بعيد المدى في تحقيق الأمن والاستقرار من خلال تثقيف أهل البادية ونقلهم من حياتهم السابقة إلى حياة عزيزة كريمة يسودها العدل والوئام، والأمن والاستقرار، وتُشرق عليها أنوار العلم والهدى والمعرفة، فبدأت الحركة العلمية في البلاد بعد ذلك تنشط وتقوى يوماً بعد يوم، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحاضر من الازدهار والتطور والتقدم. 2 - تطبيق الشريعة وإقامة الحدود بين الناس. لا شك أن تطبيق الشريعة الإسلامية خاصة فيما يتعلق بالجوانب الحقوقية والجنائية له أثره العظيم ودوره الإيجابي في تحقيق الأمن والاستقرار؛ لأن الناس مختلفون، فمنهم من ينزجر بالنصح أو بالتوبيخ، ومنهم من لا ينزجر إلا بتطبيق الشريعة وإقامة الحدِّ عليه، فيكون عبرة للغير. ومن هنا حرص الملك عبدالعزيز - رحمه الله - على تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة العدل والمساواة بين الناس، ممتثلاً مقولة الصدِّيق الأكبر - رضي الله عنه - حين قال: ( ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه ). وقد سار على هذا المنهج أبناء الملك عبدالعزيز - رحمه الله - من بعده حتى وقتنا المعاصر تحت ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك- سلمان بن عبدالعزيز - حرسه الله - وانعكس أثر تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود على المجتمع السعودي بتحقق العدالة والحرية والترابط الاجتماعي، وبذلك أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأصبح الجميع يعيش في أمن وأمان لا مثيل له في العالم. العنصر الثاني: وضع الحرمين الشريفين قبل دخولهما تحت نفوذ الملك عبدالعزيز وسلطانه. كان الحرمان الشريفان قبل دخولهما تحت نفوذ الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في حالة سيئة من الناحيتين الأمنية والدينية. أما من الناحية الأمنية فعلى الرغم من قداسة البقعتين إلا أن الأمن فيهما يكاد يكون معدوماً؛ نظراً لانتشار اللصوص فيهما وحول الطرق المؤدية إليهما، حتى إن بعض القبائل تفرض رسوماً مالية على الحجاج والمعتمرين، ومن عجز عن السداد يكون رهينة عندهم حتى يأتي من يفتديه بالمال، أو ربما يكون رقيقاً يُباع ويُشترى، وقد ذكروا أن أميرة أفغانية تم احتجازها عندهم كرهينة، فجاء من يفتديها بالمال ليطلق سراحها. فكانت تلك البقاع الطاهرة المقدسة التي هي مأوى أفئدة المؤمنين، مرتعاً للمجرمين وقُطَّاع الطرق، وأصبح ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين يتنقلون بين المشاعر المقدسة وهم في رعب وهلع، لا يدري أحدهم أيكمل نُسكه أم يجري عليه ما جرى على غيره من السلب والنهب وربما القتل، وجاء في مرآة الحرمين: 75-1، أن الحجاج رفعوا عريضة إلى السلطان العثماني يطلبون منه النجدة ويشكون إليه حالهم في المشاعر المقدسة، يقولون في مقدمتها: ( علا الضجيج بأمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين.... إن الأيدي التي بسطها الحجاج إلى السماء في بيت الله للدعاء بنصرك. قد قطعها الأعراب - اللصوص - ورموا بها على الأرض تقطر دماً، يقرأ منها الرائح والغادي حروف « واخليفتاه «....الخ ). ويُصور الشاعر الكبير « أحمد شوقي» ذلك المشهد بقصيدة دموية مؤثرة يقول في مطلعها: هكذا كان الوضع الأمني للحرمين الشريفين قبل عهد المملكة العربية السعودية يئن ألماً وحسرةً تحت وطئة الظلم والطغيان، وتنزف جراحه دماً، ويستغيث ولا مُغيث، حتى أذن الله سبحانه وتعالى للملك عبدالعزيز - رحمه الله - فهبَّ لنجدتهما وأرسى بحمدلله تعالى دعائم العدل والإيمان، ونشر الأمن والأمان، وبنى دولة دستورها القرآن الكريم وسنة خير المرسلين عليه الصلاة والسلام. وأما وضع الحرمين الشريفين من الناحية العلمية والدينية فقد كانت على حال سيئة؛ حيث انتشرت بعض التقاليد المخالفة للعقيدة الإسلامية، كتعظيم أصحاب القبور والتوسُّل بهم في الدعاء، وبناء القباب على قبورهم، وزعم حلول البركة في أهل الحرمين والمجاورين فيه، وهذا يعني أن لهم أن يرتكبوا من الآثام والمعاصي ما أرادوا؛ فهم في حمى من البركات التي حلَّت في أرواحهم، وحصانة من الجوار الكريم الذي اختصهم الله به، ناهيك عن محاربة العلماء الربانيين الصادقين، والزجِّ بهم في السجون السحيقة، وتعذيبهم أشدَّ أنواع العذاب، من أمثال الشيخ أبي بكر خوقير ومعه، إضافة حصول الفرقة والاختلاف في إقامة الصلاة في صحن المسجد الحرام بين علماء المذاهب الفقهية، مما حمل أصحاب كل مذهب ينفردون بمحراب خاص عند إقامة الصلاة، فأصبحت الصلاة الواحدة في المسجد الحرام تُقام أربع مرات في اليوم، مما نشأ عنه وقوع التنازع والاختلاف والتعصب المذهبي. هذه بعض الأوضاع السيئة والمظاهر السلبية التي كانت تعاني منها بلاد الحرمين الشريفين قبل مجيء عهد المملكة العربية السعودية، والذي بمجيئه ولله الحمد والمنة حلَّ الأمن والسلام، وانتفى الظلم والطغيان، وشعَّ نور الهدى والإيمان. العنصر الثالث: عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب الأمنية. لقد كانت عناية المملكة العربية السعودية بتحقيق الأمن والأمان في الحرمين الشريفين منذ أن همَّ جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بالذهاب إلى أرض مكةالمكرمة، حيث جمع الناس قائلاً: «إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها، بل لرفع الظلم عنها، والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله، إنّي مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها، فلن يكون هناك بعد اليوم سلطان إلاّ للشرع». ولما وطئت قدمه أرض مكةالمكرمة دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي في يوم الاثنين الموافق: 26 -12-1344ه ؛ يوضِّح من خلاله أصول دعوته وعقيدته، وهدف مجيئه ودستور دولته، فقال - رحمه الله - أمام جمع غفير ممن حضر ذلك المؤتمر من دول العالم الإسلامي: «أيها الإخوان: إني لا أريد علوّاً في الأرض ولا فساداً، ولكن أريد الرجوع بالمسلمين إلى عهدهم الأول، عهد السعادة والقوة، عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، لا شيء يجمع القلوب ويوحدها سوى جعل أهوائها تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم....، وأضاف يقول: «إننا لا نُكْرِه أحداً على اعتناق مذهب معين، أو السير في طريق معين في الدين... ولكن لا أقبل بحالٍ من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطرة السليمة، لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته، ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير فتنة عمياء». فخرج أهل الحجاز إليه فرحين مستبشرين بقدومه ليعلنوا مبايعتهم له على السمع والطاعة. وصدر أمره الكريم في تلك السنة: 1344ه بتولية إبنه الأمير- فيصل بن عبدالعزيز أميراً على مكةالمكرمة، وأمر بإنشاء إدارة الأمن، وجعل مقرها الرئيس بمكةالمكرمة؛ تعزيزاً للأمن وتعظيماً للبلد الحرام، وهي مؤلفة من أقسام أمنية متنوعة، ومراكز موزعة في أنحاء البلاد. فكانت عناية الملك عبدالعزيز بالحرمين الشريفين محل اهتمامه على الدوام، وخصوصاً عند قدوم مواسم الخيرات كشهر رمضان والحج، حيث يسافر إلى هناك، ويشرف شخصياً بنفسه على أمن الحجاج وسلامتهم، والاطمئنان على صحتهم. ثم جاء بعد عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - عهد أبنائه الميامين، فساروا على نهج أبيهم في العناية بتحقيق الأمن والرخاء في سائر مدن المملكة العربية السعودية، وفي مكةوالمدينة على وجه الخصوص، وأصبح عدد رجال الأمن الذين يقومون على خدمة الحجاج يزيد عاماً بعد عام، حتى بلغ عدد رجال الأمن المشاركين في موسم الحج من عام : 1436ه حسب تصريح المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية: (أكثر من مئة ألف شرطي) بمختلف قطاعاتهم العسكرية والأمنية، في سبيل خدمة الحجاج والمحافظة على أمن وسلامة ضيوف الرحمن؛ ليؤدوا مناسكهم بكل يسر وسهولة. ومن ذلك الحين إلى وقتنا الحاضر أصبح الناس في المملكة العربية السعودية يعيشون في نمو ورخاء، وأمن واستقرار، خصوصاً في الحرمين الشريفين؛ لما لهما من مكانة كبيرة عند المسلمين، وقداسة عظمى في الإسلام. العنصر الرابع: عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب العلمية. لا شك أن للعلم والتعليم أثره الكبير في حياة الأمم والشعوب؛ إذ هو ركيزة أساسية في بناء المجتمعات والنهوض بها إلى مصاف الدول المتقدمة، ولذا كانت عناية المملكة العربية السعودية بالجوانب العلمية سواء في الحرمين الشريفين أو في غيرهما من أهم الأسس التي قامت عليها الدولة آنذاك، ولا زالت كذلك ولله الحمد والمنة، وقد كانت بلاد الحجاز قبل عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - تُعاني من انحرافات فكرية دخيلة، وبدع عقدية مقيتة، نشأت عن بعض الأعاجم، وما إن دخلت بلاد الحجاز- بما فيهما مكةوالمدينة - تحت نفوذ الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حتى أمر جلالته بتطهير البلاد من مظاهر البدع والشركيات، من باب التخلية قبل التحلية، فهُدمت القباب التي وضعت على قبور الصالحين تعظيماً لهم وتوسلاً بهم، وأمر بإزالة المحاريب في صحن المسجد الحرام، وجعل الناس يصلون جميع الصلوات خلف إمام واحد لا يختلفون عليه، يقول الشيخ محمد سلطان المعصومي - رحمه الله - : « لَمَّا تشرّفت بمكَّة سنة: 1353ه، انشرح قلبي برؤية الكعبة المشرَّفة - زادها الله تشريفاً وتعظيماً - وَلَمَّا شهدتُ توحيد الجماعة في الصلوات الخمس، زادني سروراً على سرور؛ لاضمحلال بدعة تعدُّد الجماعات في هذا المسجد الشريف، وكذا هدم قباب القبور التي كانت من أضَرّ الأشياء على عقيدة المسلمين «. وقد جمع الملك عبدالعزيز عدداً من علماء مكَّة المكرمة بعلماء نجد ليتباحثوا في مسائل أصول الشرع؛ ليحصل الاجتماع والاتفاق ويرتفع الخلاف والنزاع، فاجتمعوا في شهر جمادى الأول من عام: 1343ه، وأصدروا بياناً جاء فيه: « قد حصل الاتفاق بيننا وبين علماء نجد في مسائل في أصول الدين من أبرزها: أ - أنَّ مَنْ جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر، فهو كافر حلال الدم والمال. ب - أنَّ البناء على القبور واتخاذ السرج عليها وإقامة الصلاة فيها بدعة محرمة في الشريعة الإسلامية. ج - مَنْ سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب محرماً». واتفق العلماء على نشر هذا البيان الذي من خلاله اتضحت وحدة العقيدة في أنحاء المملكة. ثم أمر جلالته بتكليف جماعة من الناس للقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفعيل ما تم الاتفاق عليه في ذلك البيان، حرصاً منه على حفظ الدين وتنظيم شؤون الحياة، كي يحلَّ الأمن والأمان في البلاد. ولما كان الكتاب له أثر كبير في التثقيف ونشر العقيدة الصحيحة، اتجه الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى طبع الكتب وإخراج المؤلَّفات القيمة التي تهتم بالعقيدة السَّلَفِيَّة وتطهيرها من أدران الشرك والبدع، مثل مؤلفات ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والإمام أحمد بن حنبل، والشيخ محمد بن عبدالوَهَّاب، وغيرهم من علماء الإسلام، وأمر بتوزيعها على الناس في داخل البلاد وخارجها مجّاناً. وكانت هذه الكتب تشتمل على كتب في التفسير، والحديث، والتوحيد، والفقه، والتاريخ، والأدب، وغير ذلك مِمَّا يكون سبباً في تثقيف الناس وإرشادهم إلى العقيدة الصحيحة. وأمر بتكوين لجنة علمية للإشراف على الدروس العلمية في المسجد الحرام، فأصبح المسجد الحرام بعد ذلك جامعة علمية لمختلف العلوم الشرعية، تخَّرج منها آلاف الطلاب من المسلمين في دول العالم، ولا يزال الحرمان الشريفان إلى وقتنا الحاضر صرحين عظيمين، يمثلان ركيزة علمية حضارية في العلوم العربية والإسلامية. العنصر الخامس: عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب المعمارية. إن عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين فيما يتعلق بالجوانب المعمارية ليست وليدة اليوم، بل منذ أن دخلت الحجاز تحت نفوذ الملك عبدالعزيز - رحمه الله - كان الاهتمام والعناية بتوسعة الحرمين الشريفين لدى الملك عبدالعزيز من أهم الأولويات، وهكذا من بعده أبنائه الميامين، الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد والملك عبدالله -رحمهم الله جميعاً-، ويأتي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- ليواصل تلك المسيرة العظيمة، التي ابتدأها سلفه الصالح من أبيه وإخوانه في الاهتمام والعناية بالحرمين الشريفين، فكل واحد منهم له نصيب كبير واهتمام عظيم بتوسعة الحرمين الشريفين، ولسنا بصدد عرض تلك المظاهر المعمارية والتي تحققت في عهدهم، ولكن لا بد من التنويه والتذكير أن الحرمين الشريفين قد شهدا نهضة عمارنية عظيمة لم يشهد لها مثيل في التاريخ من قبل، لأن المملكة العربية السعودية منذ أن قامت على خدمة الحرمين الشريفين لا تدخر وسعاً مادياً أو معنوياً ًفي تذييل المصاعب وتسهيل الأمور، من أجل خدمة ضيوف الرحمن، وما تلك الأموال الضخمة والمليارات الكبيرة التي أُنفقت في خدمة الحرمين الشريفين وتوفير سبل الراحة والأمان لضيوف الرحمن، إلا أكبر شاهد على ذلك، وستبقى تلك المعالم الحضارية والمظاهر المعمارية بمشيئة الله تعالى ترسم للأجيال القادمة صورة مشرقة ومشرِّفة عن مدى اهتمام وعناية المملكة العربية السعودية بالمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن. إن حكومة المملكة العربية السعودية التي قامت على التوحيد والدعوة إلى الكتاب والسنة تبذل كل هذه الجهود العظيمة لا تبتغي بذلك جزاء ولا شكورا، ولا مدحا أو ثناء؛ لأنها تؤمن بأن هذا اصطفاء وتفضُّل من الله تعالى وتشريف؛ حيث هيئ لها القيام على رعاية الحرمين الشريفين وخدمة ضيوف الرحمن، في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة والخدمات المتنوعة. ومن هنا لن يقبل أي مسلم الترويج لتلك الشائعات المغرضة والمزاعم الباطلة للتشكيك في قدرة المملكة العربية السعودية وجهودها العظيمة أو في استعدادها المتواصل الدائم في تسهيل العقبات وتوفير سبل الراحة والأمن للحجاج والمعتمرين؛ ليؤدوا مناسكهم بكل يسر وسهولة على أكمل وجه، منذ قدومهم إلى المملكة وحتى رجوعهم إلى بلدانهم سالمين غانمين مكرمين. فجزى الله حكومة المملكة العربية السعودية على ما تبذله من جهود كبيرة وإنجازات عظيمة في خدمة الحرمين الشريفين وتحقيق الأمن فيهما، ونسأل الله تعالى أن يحفظ ولاة أمرنا ويوفقهم إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يديم نعمة الأمن والأمان على هذه البلاد، وسائر البلدان في العالم الإسلامي. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ** ** د. عبدالله بن عبدالعزيز الدغيثر - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية