منذ أكثر من عشر سنوات والاحتفال السنوي بيوم هجرة الطيور لا يزال يقام حول العالم؛ وذلك بهدف زيادة الوعي بأهمية الطيور المهاجرة، ودورها في النظام البيئي. وقد بدأ أول احتفال بيوم هجرة الطيور عام 1993م بالولايات المتحدةالأمريكية، ولاقى هذا الاحتفال إقبالاً كبيرًا، حقق هدفه الرئيس، وهو زيادة الوعي بحماية الطيور المهاجرة؛ وهذا جعل مؤتمر الأطراف لاتفاقية حماية الطيور المائية المهاجرة بين إفريقيا وإيوروآسيا يتبني مثل هذه المناسبة، وذلك عام 2005م. وقد بدأت أول مناسبة على مستوى القارات القديمة الثلاث (آسيا وأوروبا وإفريقيا) في عام 2006م، واعتمدت نهاية الأسبوع الثاني من شهر مايو من كل عام لتكون يوم الاحتفال بيوم هجرة الطيور. كما يتم خلال كل احتفالية اختيار موضوع لهذه المناسبة. وهذا العام (2017م) تم اختيار التنمية المستدامة للحياة الفطرية والناس؛ لتبرز أهمية الطيور المهاجرة للتنمية المستدامة تحت شعار «الطيور المهاجرة.. مستقبلها.. مستقبلنا». وللمشاركة في هذه المناسبة فقد أحببت أن أستعرض في هذه المقالة ذكريات جميلة مع مجموعة من هذه الطيور المهاجرة التي تهاجر سنويًّا لمناطق معينة لغرض التناسل؛ لتمكث بها فترة ليست بالطويلة؛ لتضع بيضها وترعى صغارها؛ لتغادر بعد ثلاثة إلى أربعة أشهر مع صغارها، بعد أن كبرت فراخها، وأصبحت قادرة على الطيران. وعليه، فإن هجرتها هذه تمثل جزءًا مهمًّا من حياتها، ومهمًّا أيضًا للنظام البيئي للمنطقة التي تتناسل بها. وقد أطلق الباحثون مصطلحًا على هذه الطيور، هو «الطيور المهاجرة الصيفية». والمجموعات التي تقصد بحار الوطن بغرض التناسل تصل خلال فصلَي الربيع والصيف، ومنها من هو قادم من القارة الإفريقية، ومنها طيور قضت فترة الشتاء والخريف في مناطق جنوب وجنوب شرق الكرة الأرضية، وربما بعضها قدم من شمال الكرة الأرضية. وللتعرف أكثر على الطيور البحرية سوف أبدأ بسرد بعض من ذكريات عزيزة على قلبي مع الطيور المهاجرة، التي كان لها الفضل بعض الله لزيادة خبرتي المحلية والإقليمية في علوم الطيور، ألا وهي: الطيور البحرية. مميزات الطيور البحرية قبل أن أستعرض شريط الذكريات مع الطيور البحرية وددت أن أقدِّم معلومات عن بعض مميزات الطيور البحرية، التي يطلق عليها بعض الباحثين بالطيور البحرية الحقيقية؛ وذلك لأنها تعتمد في معظم شؤون حياتها من غذاء وأماكن تناسلها على البيئات البحرية؛ فهي تقضي معظم حياتها بين هذه البيئات البحرية المختلفة؛ فتتغذى على أحياء بحرية، وتستخدم الجزر والسواحل للتناسل. ولهذه الطيور تكيُّف عجيب، يتمثل في قدرتها على التنقل بين ثلاث بيئات مختلفة بشكل يومي؛ فهي تتنقل بين الهواء والماء واليابسة؛ فهي تطير بالهواء، وتغطس بماء البحر، وتخرج لليابسة للراحة أو التناسل.. وهذا التغير يحتاج إلى تكيف فسيولوجي وشكلي، يتناسب مع البيئة البحرية. إن من ينظر للطيور البحرية عن قرب يجد تناغمًا بين أشكال وأحجام أجسادها وألوان ريشها وشكل مناقيرها مع البيئة البحرية. وإضافة لذلك فهي تتميز بطول أعمارها، وقلة إنتاجها؛ فأعمارها تصل بين 20-60 سنة، أما عدد بيضها في الغالب فلا يزيد على 1-3 بيضات. كما أن معظمها لديها المقدرة على العيش بعيدًا عن اليابسة لمدة طويلة، تصل إلى أشهر، وفي بعض الأنواع إلى سنوات؛ وهذا جعل دراستها ليست بالأمر السهل، وإن كانت السنوات الأخيرة مع تقدم التقنيات الحديثة كدراسات المتابعة بالأقمار الاصطناعية قدمت معلومات أكثر عن هذه الطيور وعن طريقة حياتها وحركتها، كما أن معظم هذه الطيور البحرية تتناسل في مستعمرات يتراوح حجمها من أزواج قليلة مثل خرشنة بحر قزوين إلى آلاف الطيور بالمستعمرة مثل الغاق السقطري، التي وصل منها عدد الأزواج المتكاثرة في بعض الجزر بالخليج العربي كجزيرة سواد البحرينية إلى 50.000 زوج في مستعمرة واحدة. وهناك مستعمرات في مناطق أخرى من العالم، تصل إلى ملايين الطيور. أهمية الطيور البحرية البيئية بدأت رحلتي مع الطيور البحرية خلال دراستي الدكتوراه بجامعة جلاسكو باسكتلندا، حيث اصطحبني المشرف على رسالتي الأستاذ الدكتور ديفيد هوستن لجزيرة تعرف بأيل أف مي (جزيرة مي أو مايو)، وذلك في صيف عام 1993م. وهي جزيرة تقع غرب شواطئ اسكتلندا، ويتناسل فيها عدد كبير من الطيور البحرية المميزة للمناطق الشمالية من الكرة الأرضية، منها طيور الأطيش الشمالي، والجيلمارت، وعدد من النوارس، وأجملها شكلاً وسلوكًا من وجهة نظري طائر البفن الذي يعشش في فتحات بين الصخور أو في جحور الأرانب التي أدخلت للجزيرة قبل عقود من الزمان. لقد علمتني زيارة هذه الجزيرة الكثير عن الطيور البحرية وأهميتها، وكان خلالها أول الدروس العملية قدمها لي المشرف؛ فقد كان يتحدث عن الطيور البحرية وأهميتها في النظام البيئي البحري، وأشار إلى أن العلماء وضعوها على قائمة الهرم الغذائي للنظام البيئي البحري؛ فهي تتغذى على الأسماك الصغيرة والقشريات، وهذه الحيوانات تتغذى على الكائنات الأصغر منها من قشريات وكائنات دقيقة بالماء كالبلانكتون وطحالب ونباتات بحرية؛ ما يجعل الطيور تقريبًا في أعلى الهرم الغذائي بالنظام البيئي البحري، فلو تأثرت هذه الكائنات الصغيرة فسوف يعرف هذا التأثير من تأثر الطيور البحرية. وصلنا لمنطقة القوارب في أجواء باردة، ولم نرَ الشمس منذ أيام، واتجهنا قبل صعودنا للقارب الذي سيقلنا إلى الجزيرة لأحد المحال المطلة على البحر، الذي فتح أبوابه ليخدم السياح الزائرين للمنطقة، ويقدم الخدمات السياحية من خلال عروض لبيع الخرائط وكتب تعريفية وعلمية عن المنطقة والمملكة المتحدة. وما إن دخلنا المتجر حتى توجَّه المشرف إلى ركن يعج بالكتب، وتناول منه كتابًا، واتجه نحوي ليقدمه لي قائلاً: هذا كتاب يجب أن تقرأه؛ لتتعرف على أهمية الطيور؛ فهو يحتوي في طياته على عدد من الأبحاث التي تتحدث عن أهمية الطيور. صحيح أنه يركز على أهمية الطيور البحرية، لكنه سوف يعطيك فكرة عن قيمة العمل الذي تقدمه الطيور للنظام البيئي. أخذت الكتاب بعد أن شكرته ودفعت قيمته، وكان بعنوان: «قيمة الطيور - Value of Birds». اتجهنا بعدها إلى موقع القارب في جو بارد مع زخات مطر خفيفة، وصعدت للقارب لآخذ مكانًا استراتيجيًّا يحميني من هواء بحر الشمال البارد الذي سيشتد مع تحرُّك القارب. وما إن أخذت موقعي بالقارب حتى بدأت بتصفح أوراق الكتاب، وقد جذبني بين أوراقه بحث مقدم من باحث يدعى براين، ذكر فيه أن: الطيور البحرية تعتبر مؤشرًا مهمًّا لسلامة البيئة البحرية.. وشرح ذلك من خلال نتائج دراسته مشيرًا إلى أن الكائنات البحرية لها القدرة على تخزين مواد داخل أنسجتها أكثر مما هو موجود بمياه البحر نفسها؛ فعلى سبيل المثال: إن الأعشاب البحرية والفقاريات يمكن أن تركز بعض المعادن بأنسجتها تحت عامل 10.000 إلى 100.000 مرة عما هو في مياه البحر، وإن زيادة هذه المعادن الثقيلة تؤدي لزيادة تراكيزها بالأنواع داخل السلسلة الغذائية. ولأن الطيور البحرية كما ذكرت وضعت في قمة الهرم الغذائي بالبيئة البحرية، وبمعنى آخر فإن الطيور البحرية تتغذي على الأسماك والقشريات، وهذه الحيوانات تتغذى بدورها على أسماك أخرى وطحالب وأعشاب بحرية وقشريات، وبذلك فإن أية ملوثات في البيئة البحرية سوف تتركز بشكل واضح بالطيور، خاصة المعادن الثقيلة والمواد الملوثة. ولأن الطيور البحرية تتجمع في مناطق وأوقات محددة للتكاثر فهذا يسهل الحصول على عينات للتحليل والمتابعة بعكس الأنواع البحرية الأخرى التي يصعب الحصول على عينات منها بسهولة وبشكل منتظم. وفي ورقة أخرى بالكتاب أشارت إلى أنه بتحليل المعادن الثقيلة في عظام وريش طيور بحرية، جمعت من منطقة ألاسكا الموجودة بالمتاحف الكندية، تمكن الباحثون من متابعة المعادن الثقيلة لمدة 150 عامًا؛ وعليه فإن معظم الدراسات المنشورة بالكتاب تتفق على أن الطيور البحرية يمكن أن تعمل كمؤشر حيوي للتغيرات في البيئات البحرية. بعد فترة من سير القارب باتجاه الجزيرة أشار عليّ المشرف للتقدم إلى مقدمة القارب لرؤية منظر الطيور البحرية وهي تتجمع في منطقة محددة للتغذية. هدأ القارب من سرعته؛ ليعطي قائده الفرصة لمن يرغب في أن يشاهد منظر تغذية الطيور البحرية، التي بدأت أصواتها تتعالى؛ فمنها من يلتقط غذاءه من السطح كالنوارس والخرشنة الصغيرة.. أما أجملها فكان الأطيش الشمالي الذي كانت أفراده ترتفع للأعلى ليهوي الواحد منها تلو الآخر كالسهم إلى الماء؛ لتخرج بعدها وقد غنم كل منها بوجبة دسمة. وفي خضم هذا المنظر المهيب دنا مني المشرف، وبدأ يتحدث إلي قائلاً: أتعلم يا محمد.. إن تغذية الطيور على الأسماك يجعلها في وضع يساعدنا على تقييم وضع الأسماك بالمنطقة. وقبل أن أسأله عن كيفية ذلك استطرد في الحديث وقال: الأسماك الصغيرة الموجودة في مجموعات تتغذى عليها الطيور والأسماك الكبيرة؛ وعليه فإن نقص عدد الطيور المتناسلة بالمنطقة ربما يكون ناتجًا من قلة الأسماك التي تتغذى عليها؛ وهذا سوف يؤثر على الأسماك الكبيرة التي تمثل مصدرًا اقتصاديًّا لكثير من الدول، خاصة بهذه المنطقة. لا أدري كم مكثنا ننظر إلى هذه الطيور حتى بعد تحرك القارب مبتعدًا بالرغم من برودة الجو وحركة القارب الصاعدة والهابطة مع الأمواج التي تُفقد التوازن، لكن هذا المنظر كان بالنسبة لي بداية لعشق وشغف للتعرف أكثر على الطيور البحرية. وصلنا الجزيرة، وبدأنا التجوال بحذر برفقة أحد المرشدين على الجزيرة، وكان اهتمامي خلال الرحلة أن أشاهد طائر البفن، وهو من الطيور الجميلة؛ فشكل ولون مناقيرها المخروطية ذات ألوان زاهية لا مثيل لها بين الطيور البحرية بشمال الكرة الأرضية. وما شدني إلى هذه الطيور رؤيتي لها وهي تحمل في مناقيرها عددًا كبيرًا من الأسماك الصغيرة التي تتدلى من على جانبي المنقار، وهذا راجع إلى أن سقف هذه المناقير يحمل بروزات مدببة، يجعلها قادرة على مسك وتثبيت السمكة، ومن ثم تستطيع الاستمرار بالصيد وتلتقط السمكة تلو الأخرى حتى تحمل هذه الغنيمة إلى صغارها. وبفضل من الله ما إن وصلنا الجزيرة حتى شاهدت هذه الطيور الجميلة وطيور النورس قد تكالبت عليها تطاردها منذ خروجها من الماء لإسقاط ما تحمله من غذاء، وقد نجحت في ذلك وحرمتنا من تصويرها والأسماك متكدسة داخل مناقيرها. السياحة البيئية لمشاهدة الطيور البحرية لقد رافقنا في الرحلة لجزيرة أيل أف مي عدد من السياح من مناطق عدة بالمملكة المتحدة ومن دول الاتحاد الأوروبي. وقد أُعجبت بالتنظيم واحترام السياح للأنظمة، خاصة فيما يتعلق بالسير داخل مسارات مخصصة؛ حتى لا تتأثر الطيور بالإزعاج؛ إذ إن بعضها يضع بيضه على حافة جرف؛ ويمكن أن يسقط البيض أو الفراخ عند الاقتراب منها. ويذكر المرشد السياحي - وهو أحد طلاب دراسات عليا بجامعة أدنبرة، ويعمل بالجزيرة للحصول على مبلغ مالي يساعده على إكمال دراسته - أن السياحة للجزيرة لمشاهدة الطيور البحرية زادت خلال السنوات العشر الماضية. الجدير بالذكر أن السياحة البيئة التي تتمثل بالرحلات للمناطق البرية لمشاهدة المناظر الطبيعة وما بها من حيوانات وطيور زادت بشكل كبير خلال السنوات الماضية؛ إذ تشير التقارير المنشورة إلى أن السياحة البيئية زادت بنسبة 100 % في الفترة بين عام 1990 وعام 2000م، بينما تنمو السياحة الكلية بمعدل سنوي قدره (4 %). ووفقًا لمنظمة السياحة العالمية (WTO) بلغ حجم عائدات صناعة السياحة البيئية 425 بليون (مليار) دولار أمريكي خلال العام 1999. فما هي عائدات هذه الصناعة في الوقت الحالي، خاصة أن هناك طلبًا كبيرًا على مثل هذه السياحة؟ ولكن هل سيؤثر تدهور البيئات الطبيعية وتناقص أو انقراض أنواع على هذه السياحة؟ وكم سيؤثر ذلك على حياة الناس؟.. لقد قدمت زيارتي لجزيرة أيل أف مي خبرة وعلمًا جديدًا عن هذه الطيور المهاجرة التي تأتي لليابسة للتناسل، فكنت أتجول داخل الجزيرة والأفكار والأحلام تتجول وتتعاقب في رأسي، وكلي أمل أن أرى مثل هذه السياحة البيئية في أرض وطني الغالي؛ فلدينا جزر وأنواع من الطيور البحرية مميزة، خاصة مع قدرتها على تحملها صيفنا الحار جدًّا.. وكيف يمكن أن تساهم هذه السياحة في اقتصاد بلدنا؟.. يتبع - عميد البحث العلمي المكلف بجامعة الطائف