تحوَّلت الفلسفة والخطابات النقدية في العلوم الإنسانية إلى مرحلة من (المابعديات) التي جعلت من كل نظرية مرحلة لاحقة لها كالبنيوية ومابعد البنيوية؛ الحداثة وما بعد الحداثة؛ الإنسانوية ومابعد الإنسان؛ الأيديولوجيا ومابعد الأيديولوجيا؛ العلمانية ومابعد العلمانية؛ النسوية ومابعد النسوية؛ الاستعمار ومابعد الاستعمار وغيرها من المابعديات. وعند التأمل في هذه الخطابات المابعدية يعنُّ لنا أمران: الأول يكمن في ردة الفعل الفلسفية المعاصرة التي أطّرتها فلسفة الحداثة في مرحلة النهضة الأوروبية؛ مما جعلت الفكر البشري خاضعًا لقوانين أبدعتها فلسفة الحداثة ومن خالفها فقد خالف قوانين حياة البشر؛ ويظهر ذلك على العديد من الأصعدة السياسية في النظرية الديموقراطية التي نشأت من منظور أصل الشر في الإنسان كما عند هوبز؛ أو على الصعيد الفلسفي الكامن في تقديس العقل وجعله المنقذ الوحيد للإنسان كما عند كانط. ويكمن الثاني في العلاقة بين الفلسفة والفيزياء من خلال نقض الفيزياء الكلاسيكية الظاهرة في قوانين نيوتن للفيزياء بفيزياء الكم التي احتارت فيما دون الذرة في كونه جسيم أو موجه؛ مما ولّد لنا مرحلة من الحيرة والريبة كما عند هايزمبرغ. ولعل هذا الرد الذي أنتج لنا مرحلة السيولة كما في فكر زيجمونت باومان الذي استبدل (مابعد الحداثة بالحداثة السائلة) يحيلنا إلى مرحلة ذوبان في الفكر البشري نتجت عن تلك المرحلة الجامدة التي عاشها الفكر البشري ضمن مركزية الحداثة الغربية. وربما نستقي من خطابات المابعد تلك المرحلة التائهة المشتتة من الفكر البشري إلى الدرجة التي جعلته لم يستطع أن يسمي مرحلته الفكرية بمفهوم معين؛ وراح يستحضر ما سبق ويربطه بما لحق من خلال (المابعد). ولعل خطابات المابعد هي الأكثر اتساعًا للفكر البشري بأن ينتج خارج مركزية الحداثة الغربية؛ وهذا ما رأيناه في (دراسات التابع) التي نقدت الحداثة الغربية وحاولت استبدالها بأفكار بشرية موازية لها من ثقافات أخرى. ومن الممكن أن يكون النتاج الأكبر لخطابات المابعد يتجلى لنا في مفهوم (التعددية الثقافية) التي منحت الهامش فرصة التفكير والإبداع والنقض. - صالح سالم