قبل الحديث عن هذا الموضوع لابد أن أقف عند نقطتين وهما: الأولى: إن الحديث عن الميليشيات الشيعية لا تعني المذهب الشيعي ولا الشيعة، فتلك الميليشيات لا تمثل الشيعة ولا المذهب الشيعي كما أن داعش ومشتقاتها ومن قبلها القاعدة لا تمثل المذهب السني ولا أهل السنة، وهذه ملاحظة أركز عليها حتى أٌغلق باب المزايدة على هكذا مدخل لِمن في نفسه أشياء من حتى.. فالتطرف والإرهاب ليستا سمة للعرب والمسلمين، إنما هي حاصل خطاب ديني متطرف تحريضي ووضع عالمي اضطهد ومايزال يضطهد العرب و المسلمين. والثانية: أن أي متأمل أو محلل لنشأة الميليشيات الشيعية لن يستطيع فهم أيديولوجية هذه الميليشيات دون العودة إلى المصدر السياسي الذي ميزها بما هي عليه من خصائص الآن.. وأعني بتلك الأيديولوجية التبعية السياسية في صيغته الخمينية. ومثلها تملك الميليشيات المحسوبة على السنة فكرة أيديولوجية، لكن الفرق بينها أن الأيديولوجية التي تحملها الميليشيات المحسوبة على المذهب السني أو السلفية لا ترتبط بأي نظام عربي سياسي سني، وبذلك فتبعيتها خاضعة لأفكار تاريخية، وهذا الارتباط والخضوع لقيمة الإحيائية التاريخية لاشك أنها أكسبت تلك الميليشيات رجعية تاريخية وعداء غير مبرر نحو الآخر ونحو القيم الحضارية في مجملها. على عكس من الميليشيات الشيعية فأيديولوجيتها عادة محصورة وتابعة لنظام سياسي خاص، وتلك التبعية جعلت الميليشيات الشيعية حتى التي تتدعي المعارضة السياسية في بلدانها خارج خصوصية مصلحتهم الاجتماعية وارتباطها بمشروع طائفي تاريخي يعادي الوطنية المحلية ويسهم في تفريق وحدة الكيان الاجتماعي لمجتمعاتها. وهذا لا يعني أنها لا تنتمي إلى أصالة تاريخية أسوة بالميليشيات المحسوبة على المذهب السني، وإن كان هناك فارق في طبيعة تلك الأصالة ومرجعياتها وتطورها السياسي. ولا أقصد بالفارق قيمة تمييزية بل مستوى اختلافي. وتتفق كلا نوعي الميليشيات على قصدية «الدولة الدينية»أو «ديننة الدولة». تنطلق فلسفة أيديولوجية الميليشيات الشيعية قديماً وحديثا من «قاعدة الدين أولى بالحكم» وبدأت أسس هذه القاعدة قديمة من فكرة «الإمام المنتظر» ثم تطورت إجرائياً على يد الخميني لتتبلور في مشروع «ولاية الفقيه»، وهو المشروع الذي يُشرّع أحقية رجال الدين لقيادة الشعوب وحكمها، فهم من يمثل القانون الإلهي في الأرض، ويتهم كل من يرفض قيادة رجال الدين للشعوب بالطاغوت «لا تصغوا لأولئك المعارضين لنهج الإسلام الذين يعتبرون أنفسهم متنورين، ومن يناوئون حكومة الفقهاء، لن يكون سوى الطاغوت بديلاً عنها» -الخميني-. وإذا كانت الميليشيات الشيعية وفق أسس ثورة الخميني ترى أن كل من يخالف نهجها هو «طاغوت» فالأمر ذاته لدى الميليشيات المحسوبة على السلفية فهي ترى كل من يخالف نهجها «كافراً».. وكما تنطلق فلسفة أيديولوجية الميليشيات الشيعية من قاعدة الإمام المنتظر وولاية الفقية،فايديولوجية الميليشيات المحسوبة على السنة والسلفية تنطلق من قاعدة»إحياء الخلافة السلفية» وتلك الأيديولوجية واضحة من خلال الثيمة الشكلانية والتوصيفية التي يتمثلها قادة هذه الميليشيات وأتباعها. لكن الفرق على هذا المستوى بين كلا الميليشيات، أن الفكر الشيعي استطاع أن يكوّن «دولة دينية» من خلال إجرائية «ولاية الفقيه» في إيران مما مكنها من إنشاء أذرع سياسية لها في الدول السنية، حيث أصبحت تلك الدولة الدينية ممثلة لنظام سياسي ذي أيديولوجية تبعية. في حين أننا لا نجد أي دولة سنية هي «دولة دينية» بالمعنى المتماثل للدولة الدينية في إيران، فالدول العربية السنية هي دول مدنية بخلفية دينية، عكس إيران، فهي دولة دينية بخلفية دينية، وهو ما انعكس على الخطابات السياسية للمليشيات الشيعة كحزب الله والحوثيين. وغياب الدولة الدينية السنية، هو الذي دفع الميليشيات السنية السلفية إلى توليد أيديولوجية نظامها السياسي من خلال إحياء قيمة «الخلافة السلفية» كونها ممثلة -كما تعتقد- لبنية الدولة الدينية. إن أي نظام سياسي يتشكل وفق بنية دينية خالصة هو نظام بالضرورة مُنشئ «للتميز الطائفي والعنصري» والعداء للآخر «وتصفيته ومحو هويته» وهذا المبدأ ليس محصوراً على المسلمين بل نجده عند المؤسسين الأوائل لأمريكا وعند النازيين مما يجعل الثيمة السابقة «الدولة العنصرية» سواء بالدين أو العرق أو التاريخ أو الحضارة هي ثيمة عامة وليست خاصة. ولذا لا نندهش من فكرة التصفية والتطهير الطائفيين والعنصريين، اللذين تمارسها داعش وميليشيات الحشد الشعبي في العراق و ميليشيات حزب الله في سوريا.. وهناك طبعاً المزيد من أوجه الشبه بين كلا الميليشيات السنية والشيعية منها، «تصدير أفكارهما التحريضية» وفكرة التصدير هي فكرة ثقافية في المقام الأول، نجدها في العصر الحديث عند الإخوان المسلمين والسلفيين ثم الخُمينيين، كما أنها تتجاوز التصدير الديني لتشمل التصدير الثقافي والفني والفكري، ولا نبالغ أن قلنا أن فكرة التصدير في عمومها هي أصل الشراكة الحضارية في التاريخ الإنساني.. وإضافة إلى التصدير الديني فهما يشتركان أيضاً في الزحف الدائم نحو التمكين السياسي ولو على حساب سيادة الدول، لأن التمكين السياسي هو الذي سيحقق مشروع «الدولة الدينية». إن معرفة الحق وإثباته لا يحتاج إلى قوة السلاح بل قوة الحجة والدليل، لكن فرض الباطل وإثباته دوما يحتاج إلى قوة السلاح، وهذه هي القاعدة الإجرائية الأخطر في سياسة الميليشيات سواء الشيعية أو السنية؛ فرض تمكينها السياسي بقوة السلاح؛ فهي تفرض باطلها بقوة السلاح ووحشية التخويف، لإعادة استنساخ نازية الجديدة.