رحل عالم الاجتماع زيجمونت باومان عن (الحياة السائلة) بعد أن خلّف لنا (فكرًا سائلًا) يفتح لنا مجالًا نحو السيولة بعد مرحلة (الحداثة الصلبة) بحسب رأيه. فالتفكير السائل هو النتيجة - و قد يكون السبب - لإبداعه (الحداثة السائلة) و(الحب السائل) و (الأخلاق السائلة)، (الأزمنة السائلة)، (الحياة السائلة) و(الحداثة والهولوكوست) و غيرها مما يخص الفكر السائل . ولعل ما يثير التفكير نحو مشروع باومان عن الحداثة السائلة هو تفلسفه لهذه السيولة باعتبار ما هو واقع و ليس ما هو مبتغى ؛ بمعنى أن الفلسفة تنهج دائمًا إلى إبداع ما يحتاجه الإنسان و ليس تحليل ما هو كائن في واقع الإنسان ؛ و هذا ما جعل الفلاسفة يصلون قمة التفكير حينما يبدعون المفاهيم -بحسب جيل دولوز- بينما نلحظ أن باومان يحلل ما هو واقع و كائن لذلك فإن تحليله أقرب إلى علم الاجتماع البحت منه إلى الفلسفة و التفلسف. وربما يكون باومان من أفضل من ناقش و حلل أفكار (مابعد الحداثة) في مشروعه الفكري ؛ وإن كان يعتمد اصطلاح (الحداثة السائلة) مقابل (الحداثة الصلبة) بديلًا عن (مابعد الحداثة) ؛ و هو موقن بخطأ هذا الاصطلاح لاعتماده على التجديد في مرحلة الحداثة السائلة إلى الدرجة التي يوقن فيها بأن «الإيمان المتنامي بأن التغير هو الثبات الوحيد ؛ وإن اللايقين هو اليقين الوحيد» (الحداثة السائلة ص27). وعدم فصل المصطلح عن الحداثة (بمابعد) يدل على استحضاره لما أنتجته الحداثة و اعتماده عليه ؛ إلا أن الصلابة هي الأمر الذي يجعله ينقدها و يستبدلها بالسيولة. وقد يكون من الظاهر لنا اعتماد باومان على دراسات المهمشين في طرحه لقضايا الحداثة السائلة كمناقشته قضية (الهولوكوست)؛ ونقد مركزية التفكير بآليات الحداثة الغربية و ذلك من خلال نقد السلطة باعتبارها الأساس في الحداثة الصلبة ؛ سواء أكانت هذه السلطة اجتماعية كما في علاقات البشر ؛ وقد حللها في كتبه (الأخلاق السائلة ص56-75 وغيرها ، و الحب السائل والحياة السائلة)؛ أو كانت السلطة سياسية في علاقاتها بالمجتمع عبر اصطلاح (المجتمع المدني) الذي نقده كثيرًا في كتابه (الأخلاق السائلة ص49) ؛ أو كانت هذه العلاقة السلطوية عبر الاقتصادي من خلال الشركات الكبرى التي سيطرت على حياة البشر ؛ و قد تطرق لها في كتابه (الأخلاق السائلة ص199-201). وما كتبه باومان في مشروعه الفكري حول السيولة أضحى مثار جدل عند الكثير من الناقمين على الحداثة الغربية ؛ حتى تلقاه العديد من المنتمين لأيديولوجيات دينية و احتفوا به احتفاءً كبيرًا ؛ مما جعل هبه رؤوف تقدم للعديد من ترجمات كتب باومان باحتفاء بالغ جدًا يصب في مصلحة نقدها للحداثة الغربية الذي هو امتداد لنقد عبدالوهاب المسيري من قبل. و لعل هذا المقال يركز على بعض ملامح مشروع باومان مما يجعله ليس تلخيصًا لأفكاره أو نقدًا لها وتحليلًا بقدر ما هو محاولة للتفكير في منهجية باومان في مشروعه الفكري الذي ينتمي لمرحلة مابعد الحداثة/الحداثة السائلة. - صالح بن سالم