تردَّدتُ في اختيار الكلمة بين القوسين أعلاه، هل أبقيها كما هي؟ أو أُغيّرها إلى «تكتمل»؟ تفاؤلاً بأنَّ هيبة الأكاديمي تعاني من نقصٍ لا انعدام، غير أني فضَّلتُ في النهاية (العودة)، تنبيهاً إلى أهمية هذه الإشكالية، ورغبةً في لفت النظر إليها، وأياً كان الأمر، فإني أظنُّ أنَّ مكانة الأكاديمي ووضعَهُ الاجتماعي لم تعد - للأسف - كما كانت، يوم أن كان يحظى بما لم يحظَ به غيره من ثقةٍ وتقديرٍ واحترامٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ في المجتمع. والأسئلة التي تحضر هنا: لماذا تغيرتْ صورة الأكاديمي؟ وما الأسباب التي غيَّرتْ من مستوى هيبته؟ ومَنْ المسؤول عن كل ذلك؟ وكيف يمكن أن تعود هذه الهيبة أو تكتمل؟ هذا ما تحاول المقالة الإجابة عنه ومعالجته، علَّها تفتح الآفاق لبحث المشكلة من قِبل المسؤولين بشكلٍ جدي، قبل أن تتردَّى الحال أكثر مما هي عليه الآن. إنَّ أول سببٍ ألحظه هو تساهل الجامعات في قبول المعيدين، وعدم الالتزام بمعايير عالية المستوى للسماح لهم بالانخراط في السلك الأكاديمي، فصرنا نرى غيرَ المؤهلين أصحابَ المعدلات الضعيفة والثقافة الهشة ينالون نصيباً كبيراً من هذا القبول، ثم تتنزَّل (بركة الله) عليهم فينالون الماجستير والدكتوراه (بقدرة قادر)، ويُضحون بين يومٍ وليلة أساتذةً جامعيين، ينظر إليهم الناس على أنهم الصورة التي تمثِّل الأكاديمي، الذي يُعدُّ من النخبة المثقَّفة، القادرة على قيادة المجتمع، وإحداث الفوارق فيه، وإفادته بالرؤى الصائبة والتصورات الحكيمة. وأظنُّ أنَّ هذا التساهل راجعٌ في المقام الأول إلى غياب إدراك بعض المسؤولين في المؤسسة التعليمية أنَّ هؤلاء هم قادتها في المستقبل، وأنهم هم الذين سيسهمون في رسم صورة الأكاديمي، سواءً على مستوى الجامعة أو على مستوى الوطن، ومن ثمَّ لم يكن الأهم في نظرهم إلا أن يحصل هذا الفتى على وظيفةٍ مرموقةٍ تؤمِّن له لقمة عيشه، محققين بذلك مصالحهم الذاتية! غير آبهين بضياع هذه الهيبة، ولا مهتمين بأجيال الطلاب الذين سيتلقون العلم منه، ويتخرجون على يديه! وتمتدُّ هذه الإشكالية لتتصل بالدارسين من خارج الجامعة، أولئك الذين يلتحقون بها للحصول على درجةٍ علميةٍ؛ سعياً إلى تحسين مراتبهم في عملهم الأصلي، ثم ما يلبث هؤلاء -بعد أن ينالوا الدكتوراه- أن يُقدِّموا على الجامعة التي تفتح لهم أبوابها، دون التدقيق في شخصياتهم وعلميتهم وثقافتهم ومدى تأهيلهم للعمل في التعليم العالي، فليس كلُّ مَن حصل على الدكتوراه مؤهلٌ لأن يكون أستاذاً جامعيا، فهذا الأخير مُكلَّفٌ بأعمالٍ علميةٍ وبحثيةٍ وأكاديميةٍ لا يمكن لكلِّ أحدٍ توليها وإنجازها، كما أنه سيقابل طلاباً في مرحلةٍ عاليةٍ يختلفون في مستوياتهم الثقافية والفكرية والأخلاقية عن طلاب التعليم العام، وعدم مراعاة هذه الفوارق تسمح لأمثال هؤلاء الانضمام ظلماً إلى التعليم العالي، فيُشكِّل -شئنا أو أبينا- صورةً مشوهةً للأكاديمي. وهذا ما يقودني إلى سببٍ آخر من أسباب اهتزاز صورة الأكاديمي وضياع كثيرٍ من هيبته، وهو التساهل في منح الدرجات العلمية لمن لا يستحق، مجاملةً له أو لمشرفه، وهو ما تحدَّثتُ عنه في عدة مقالات سابقة، إذ لا يدرك المسؤول حينها أنَّ هذه المجاملات المخزية تسهم بشكلٍ كبيرٍ في الإساءة إلى هذه الوظيفة الراقية، التي لا ينبغي أن يشغلها إلا مَنْ هو أهلٌ لها، ومن ثمَّ تكثر هذه النماذج الضعيفة، لتشكِّل في مجموعها صورةً للأكاديمي، فينظر إليه المجتمع نظرةً يشوبها الشكُّ وينقصها الاحترام. وهذا ما يستدعي الحديث عن السبب الثالث من أسباب فقدان هذه الهيبة، وهو السماح لكلِّ من (هبَّ ودبَّ) بدراسة الماجستير أو الدكتوراه؛ لأنَّ قبول الضعفاء في السنوات المنهجية يضمن لهم قطع نصف المسافة -على الأقل- نحو نيل هذه الدرجات العلمية العالية، في ظلِّ تساهل بعض أساتذة الدراسات العليا في المناهج والتصحيح، وفي ظلِّ التساهل في قبول الأفكار البحثية التي يُقدِّمها هؤلاء، وفي ظلِّ المجاملات التي تحدُثُ في المناقشات، كلُّ هذا يؤدي إلى ضعف الثقة بالأكاديمي، وفقدان كثيرٍ من أسباب هيبته.