يقول مارك توين: «إذا استيقظت فوجدت نفسك تشبه الأكثرية فقد آن أوان التغيير «في ظل هيمنة ثقافة الحشد فإن خاصية التفكير تتعطل عند الفرد المثقف لأنه - ومهما كانت درجة وعيه وثقافته - يكون قد سقط في غياهب المد الجماهيري. وفي الغالب حينها لا يمتلك الوقت الكافي حتى للتمييز والتدقيق لأن مجرد التوقف للتفكير سيجعله يتأخر عن الانضمام للحشد ومن ثم يجد نفسه في مواجهة نقمته. باعتباره متخاذلاً لو بقي برهة بينه وبين نفسه يفكر. وهذا في عرف الجماهيرية جريمة نكراء فعليك كفرد أن تعبئ نفسك دائمًا وترفع شعارنحن وتلغي أنا تمامًا من قاموسك وتعلن للملأ أنك (موجود 24 ساعة) حتى تجد الرضا والقبول من الجماهير.. ومن هنا تصنع الثقافة الجماهيرية من نفسها طاغية جديدة تضرب بالسوط والعصا كل من يحاول أن يصنع وعيه الخاص وفكرته النوعية حتى وإن كانت في مصلحة هذه الجماهير. لكن لا وقت للنظر فيما لدى الفرد مهما كان متميزًا فلا صوت يعلو على صوت الحشود. وحسب جوستاف لوبون فإن الحقيقة تضيع بين الجموع ولا يمتلك الفرد فيها القدرة على أن يكون ويشكل فكرته الخاصة فينخرط في الجماهيرية حتى يشعر بالأمان الجمعي من خلال الانتماء للمجاميع الغفيرة حتى لو كانت تلغي عقله وتستبدله بنسخة متماثلة توزع على الجميع. معيار الأكثرية شجع على تلويث كل نقاء وتهميش كل إبداع وصنع تماثيل من ورق عبر تمرير تصورات ذهنية تعمل على استغلال المشاعر والعواطف سواء الدينية أو القومية أو الاستهلاكية الفارغة. ولا تستغرب اليوم أن تقرأ عن برامج تثبت جودتها بإعلان أرقام فلكية لأعداد متابعيها وكذلك المحطات والكتب ومثلها حسابات الفنانين والدعويين في تويتر وغيرها من وسائط الإعلام الاجتماعي مع الذين يعتاشون من زيادة الأرقام الوهمية وتأثيرها في الإعلانات المبطنة. المد الجماهيري بطبيعته ومهما بذلت الدول لتنظيمه يظل نذير فوضى وتجد ذلك يتبدى في أي زحام فالحشود لا تترك لك فرصة أن تكون على طبيعتك وما تعلمته من آداب الطريق واحترام الأماكن العامة بل هي تدفعك لتكون نسخة من الآلاف حولك تحاول أن تنقذ نفسك من التكتلات البشرية بنفس طريقتها وإلا فإن مصيرك الدهس تحت الأقدام. هذه الصورة المؤلمة لما يحدث للأجساد في الزحام هي نفسها التي تحدث للعقول في مد الأكثرية والجماهيرية فهي تجد نفسها ملزمة لأن تكون نسخة متطابقة لضجيج الحشد الهادر وإلا فإن مصيرها النبذ والإقصاء. على المثقأن يعي أن المد الجماهيري ليس ورقة رابحة دائمًا بل هي أحيانًا ورقة في طرفها شرارة لا تدري متى تشتعل؟