كل حدثٍ مهما كان عظيماً؛ لا بد أن يحمل إمكاناته النقدية. والأحداث التي تجري في العالم العربي، لا بد من إخضاعها للفحص والنقد، سواء بالحديث عن المآلات التي من الممكن أن تفرزها، أو عن الممكن السياسي الذي ستأتي به، أو عن الأمراض الاجتماعية والفكرية التي ستولدها. فالأحداث ليست مقدسةً، ولا يمكن أن تكون فوق النقد. ومن المؤسف أن يتنادى بعض الذين يدعون إلى الحريات بتقديس الاحتجاجات، وعدم تناولها بالنقد والتصويب، مع أن النقد إمكان دائم، لا يمكن أن تنجو منه أي ظاهرةٍ اجتماعية، مهما كان مستوى الصواب الذي تحمله، وبالذات حين يكون الحدث جماعياً، بحيث يتحول إلى نهرٍ هادرٍ لا يمكن ضبطه أو التحكم فيه. يأخذ الحدث الفردي صيغته التمثيلية؛ حيث يمكن التعاطي معه على أسسٍ تتعلق بالمسؤولية، من الناحية النظامية، ومن الناحية الفكرية. وحين يكون التعبير جماهيرياً تتوزع المسؤولية، يتحول كل حدثٍ أرعن مسؤولية الكل على مستوى الفعل، لكنه ليس مسؤولية أحد على مستوى الحكم والمحاسبة. سيغموند فرويد في ورقته التي كتبها سنة 1921 بعنوان: «علم نفس الجماهير» والتي كانت تعليقاً على كتاب غوستاف لوبون: «سيكولوجية الجماهير» يشير إلى حالة «التداعي» الجماهيري، بمعنى أن: «الجمهور، سريع التأثر، سريع التصديق، يعوزه الحس النقدي، ولا وجود في نظره للمستبعد الحدوث، وعندما يفكر بصورةٍ تستتبع واحدتها الأخرى، بقوة التداعي». حالة التداعي الجماهيري، قد تأخذ صيغتها الأمنية، بحيث تجتثّ أسس السلم، كما حدث في مصر من مواجهاتٍ ذات طابع ديني، بين أتباع دينيْن. والتداعي يأخذ شكله الكلامي على مستويات التشجيع، أو المشاكلة في التفكير، أو الخوف من مخالفةِ المجاورين والمشاكلين، من هنا تأخذ حالات التجمهر سواء كانت فكريةً، أو حركيةً اجتماعية صيغها الجماعية التي تنتفي معها الرؤية النقدية، فضلاً عن المحاسبة، أو معاني المسؤولية. يرغب البعض في الانسياق الدائم وراء الجماهير، بحثاً عن الزعامة الوهمية، إذ سرعان ما يشعر بحالةٍ ذاتيةٍ وهمية، تجعله يشعر بمركزية في التأثير في الجماهير، بينما لا يعرفه غالبهم إن لم يكن كلهم، وهذه مشكلة العقل حين يكون هشيماً تذروه غبار جلبة الجموع. حتى في أكثر البلدان تحضراً يأخذ التجمع الجماهيري صيغة انتفاء المسؤولية، يكتب لوبون: «إن الجمهور مغفل بطبيعته، وبالتالي غير مسؤول، وبما أن الحس بالمسؤولية هو الذي يردع الأفراد، فإنه يختفي في مثل هذه الحالة كلياً، فالعقائد لا تتشكل عند الجماهير إلا عن طريق التحريض والعدوى، والإيحاء التنويمي، ولا تتولد عن طريق تشغيل العقل والمحاكمة العقلانية، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تضخم الثقة بالنفس لدى الجماهير واطمئنانها إلى عدم المحاسبة والمعاقبة». إن الأحداث الكبرى التي تمر على المجتمعات، من الطبيعي أن ينظر إلى إيجابيتها في البدء، لكن وبعد أن تأخذ شكلها اليومي، لا بد للناقد من تناولها بالتفصيل، يمكن للشعراء الاستمرار في المدح، غير أن الناقد عليه أن يبحث عن ثغرات أي حدثٍ مهما كان عظيماً. خصوصاً حين يكون النقاش عن المشكلات الثقافية التي يمكن أن تفرزها التجمعات، ومن بينها انتشار الجريمة اللا مسؤولة، أو انفلات الأمن، أو عودة الطائفية، أو ارتهان البلدان للقوى المتطرفة، ومهما كان مستوى الاهتمام العاطفي والوجداني تجاه أي حدثٍ غير أن فحصه ونقده تغدو ضرورةً ملحة. في مصر على سبيل المثال؛ لم تزل المشكلات التي تطرح، سواءٌ كانت صغيرةً أو كبيرة تواجه بالتظاهر الدائم، هذه الحالة من الإلحاح الجماهيري تمنع إمكان بدء تأسيس المؤسسات، وتلغي فرص «الديموقراطية» والتي تعتمد على صوت الفرد، لا على تظاهرات الجموع الدائمة. [email protected] twitter | @shoqiran