نختم السلسلة اليوم بالحديث عن عدد من النقاط المهمة.. ونبدأ بالأخلاق، فقد كان لها شأن كبير عند زرادشت، فرسالته دعوة كبيرة لإصلاح العالم الفاسد في نظره، عن طريق فعل الخير، وبذلك يتضح أنه لم يقصرها على القول والحد النظري، بل كانت دعوته دائماً هي لتطبيق الأخلاق التي يراها فاضلة على أرض الواقع. أعظم الفضائل في الزرادشتية هي الشرف، والأمانة، وتقوى الله، والوفاء بالدين، والصدق الذي يعرّفونه بأنه السعادة في العقل. كما حرّم زرادشت الربا بين الفرس، وأجازه مع غيرهم، وجعل رأس الذنوب والرذيلة الكفر، ونختصر وصاياه في قوله: «اعمل كي تكون من زمرة الأشخاص الذين يساهمون في سبيل سعادة ورقي العالم». وأما الإنسان، فقد أولاه زرادشت اهتمامًا بالغاً، فنظر إليه نظرة إيجابية دائمًا، وحثه على نصر الخير والاجتهاد في العمل الصالح فهو في صراع يومي بين إله الخير (أهورامَزدا) وإله الشر (أهريمان).. ومن اهتمام زرادشت بالإنسان أنه أعطاه حرية الإرادة، ولكنها إرادة خاضعة للإرادة الإلهية، وهذا شبيه بموقف بعض الوجوديين المؤمنين، وشبيه أيضاً بموقف أهل السنة في الإسلام، الذين يرون أن الإنسان له اختيار، ولكنه تحت قدَرِ الله، كما أوضحتُ بالتفصيل في سلسلة مقالاتي الموسومة ب (سيرورة التاريخ الإنساني بين تدبير الخالق وفاعلية البشر) التي نُشرتْ هنا في ثقافية الجزيرة. وأما تنظيم المجتمع، فهو في الزرادشتية مرتبط بتعاليمها الدينية، بمعنى أن يتم تطبيق تلك التعاليم في كل شؤون الحياة، ولا مانع من ممارسة العادات والتقاليد، بشرط أن لا تخالف العقيدة الزرادشتية، فدينهم وتعاليم زرادشت هي الأساس دائماً وأبدًا في كل شؤونهم الاجتماعية وغيرها. وشددت الزرادشتية على عقوبة من يتسبب في نشر الأمراض مثلاً، وأباحتْ للرجال تعدد الزوجات كما في غيرها من الفلسفات الدينية، واهتمّت بالأسرة كثيرًا، فهي أقدس وأعلى نظام اجتماعي، وله كل العناية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وللمرأة أيضاً تقدير كبير، ولكنها تبقى رغم ذلك في موقعها الطبقي، وهي حرة في إدارة الأملاك والتجارة، وتسير كما تريد سافرة وجهها، ولكن الزرادشتية أوجدتْ فروقاً بين النساء الفقيرات والنساء الغنيات خاصة زوجات النخبة السياسية والاجتماعية، حيث أباحتْ للفقيرات التنقل بحثاً عن العمل، ومنعتْ نساء الأغنياء والحكام من الخروج والاختلاط بالرجال إلا بمرافقة حراس وهوادج خاصة لحمايتهن ورعايتهن. لم تشدد الزرادشتية كثيرًا في موضوع الزنا والحمل الحرام، فكانت تغفر ذلك لمن وقع فيه، رغم تحريم الزنا، ولكنها تشدد جدًا في موضوع قتل الأجنة، فكان القتل هو عقوبة من يثبت عليه الإجهاض. من حق الأم في الشريعة الزرادشتية أن تحضن أطفالها حتى سن الخامسة، وللأب الحق في حضانتهم حتى السابعة فقط، وبعد ذلك يدخل الطفل التعليم، الذي كان مقصورًا على أبناء الطبقة العليا، فقد كانوا يُعلّمون أبناء الأغنياء العلوم المختلفة، أما الفقراء، فلا مكان لأبنائهم إلا في تعليم آخر، وهو التعليم العسكري المتمثّل في ركوب الخيل وإتقان الرماية وما شابه، فهم يدربونهم جيدًا لتأهيلهم للحروب، فهم المحاربون أوقات الأزمات والمعارك. ولا يفوتني التأكيد على أن الزرادشتية تؤمن بوجود الروح فكل الأرواح عندهم كانت موجودة في العالم العلوي، وما زالت فيه أرواح مجردة، ولذلك يعتقدون أن روح الإنسان تعود إلى عالمها بعد موته. وأحب أن أختم هذه السلسلة بنقطتين هامتين هما: يشيع بين العوام أن الزرادشتيين يعبدون النار، وهذا غير صحيح في تصوّري، فهم يعبدون الله؛ ولكنهم يمجدون النار؛ لأنها في نظرهم مصدر النور الإلهي، وهي ظاهرة أساسية في معابدهم لأنها تجسّد القوة والطهارة وما شابه ذلك من نعوت الإجلال والتقديس لها. ما زال الزرادشتيون حتى اليوم يمثّلون أقلية في إيران وغيرها، ولهم حق ممارسة شعائرهم بطرق معينة، ولهم ممثلون سياسيون في البرلمان الإيراني، يحفظ لهم كثيراً من الحقوق السياسية والاجتماعية.