نحمد الله على ما حبانا به وتفضل من نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.. وإن أعظم نعمة، أنعم الله بها علينا نعمةُ الإسلام، فقد كان الناس قبله في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، لا يعرفون حقاً ولا هدى، إلى أن أذن الله ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وانبثاق فجر الحق، على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فعزَّ الناسُ بعد الذلّة، وهُدُوا بعد الضلالة، واجتمعوا بعد الفرقُة، كل ذلك بفضل التمسك بالإسلام، مصدر العزة والقوة والنصرة {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. وتتوالى النعم والخيرات على عباد الله المؤمنين، وعلى أهل هذه البلاد المباركة بخاصة، فهناك نعمة الولاية الراشدة الصالحة، التي تحكّم شرع الله، وتُقيم حدوده، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهناك نعمة الأمن والأمان والرغد والاطمئنان، بينما يُتخطف الناس من حولنا وتُهددهم المجاعات، والفتن والصراعات، والحروب والويلات {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. ولقد كانت هذه البلاد مسرحاً للفتن والحروب والنهب والسلب، حتى منَّ الله على أهلها بظهور دعوة التوحيد على يد الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وبقيام الحكم بشريعة الله على أيدي القادة الحكام من آل سعود، فلقد ناصره وأيده ودافع عن دعوته الإمام المجاهد محمد بن سعود - رحمه الله -. ولقد أراد الله لهذه الدعوة أن تنتشر، وأن يرجع الناس إلى الدين الحق، ويتركوا ما آلفوه من بدع وخرافات ومنكرات، وأن يسود الأمن والرخاء خلال هذه الفترة وما بعدها.. إلى أن تغيّر الحال وعادت البلاد إلى سابق عهدها من الفوضى والاضطراب، وانعدام الأمن والسلب والنهب والقتل، واستمر هذا الوضع إلى أن أراد الله بحكمته ومشيئته النافذة، أن هيأ لها من أمرها رشداً.. فقيَّض الله لها رجلاً صالحاً، نشأ في بيت صالح، قيّض الله لها رجلاً مؤمناً تقياً، أنار الله فكره بالعلم والمعرفة، مصداقاً لقوله سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، امتلأ قلبه بالإخلاص لله ولدينه، وانطلق لسانه بالحكمة والموعظة الحسنه.. إنه الملك الصالح عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - مؤسس هذه البلاد وموحُدها.. وبظهوره استتب الأمن، وعمَّ الرخاء، وانقطع دابر الشر والفساد.. ثم تتابع من بعده أولاده إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - أيدَّه الله - فكانوا خير خلف لخير سلف، نهجوا نهج والدهم، فحكّموا شريعة الله، فتوطّد الأمن، وتوفرت سبل الراحة، وأصبحت هذه البلاد - بحمد الله - مضرب المثل في الأمن والاستقرار ورغد العيش... لقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن الأمن سيسود في هذه الجزيرة بسبب تطبيق شريعة الإسلام، فعند البخاري وغيره من حديث عَدّي بن حاتم قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتى إليه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عَدَي: (هل رأيت الحيرة) قلت: لم أرها وقد أُنبئت عنها، قال: (فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ). لقد أمضى الملك عبد العزيز - رحمه الله - أكثر من ثلاثين سنة بعد دخوله الرياض منتصراً، أمضى هذه السنوات مجاهداً في سبيل تطبيق شريعة الله، وتحقيق الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف، ولم يكن هدفه فقط أن يسترد الرياض، بل كان هدفه أسمى، وغايته أكبر، إذ كان يتطلع إلى الوحدة الشاملة، التي تنتظم جميع مناطق المملكة، تلك المناطق التي شملها حكم أسلافه وتوحدت تحت راية الإسلام، وحكمت به، كان - رحمه الله - يتطلع إلى الحكم بالشريعة في شبه جزيرة العرب، وإلى أن تستأنف الديار المقدسة رسالتها تجاه الإسلام والمسلمين تلك الرسالة التي جاهد في سبيلها آباءُ الملك عبد العزيز وأجدادُه - رحمهم الله -. وبعد مضي هذه السنوات الطويلة من الكفاح والجهاد ضارباً في شرق البلاد وغربها، وشمالها وجنوبها مع رجاله الأوفياء، الذين ناصروه وأيدّوه وجاهدوا معه.. تحقّق له ما أراد، حيث تم توحيد هذه البلاد الفتية في وطن واحد، وشعب واحد، وهدف واحد تحت مسمَّى (المملكة العربية السعودية)، شعاره لا إله إلا الله، محمد رسولُ الله، ودينه الإسلام، ورائده التآخي والتلاحم والتراحم، وهدفه إشاعة الأمن والخير والسلام في ربوع الأرض قاطبة، ولقد حصل هذا التوحيد ولمّ الشمل في الحادي والعشرين من جُمادى الأولى لعام واحدٍ وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة. وإننا في هذه الأيام، وتحديداً في يوم الجمعة الماضية 22-12-1437ه، حينما نتذكر هذا الحديث العظيم، توحيد هذه البلاد المباركة وجمع شتاتها، على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن نشكر الله سبحانه على ما أنعم وتكرم.. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، وإن من واجب الشكر على أهل هذه البلاد، أن يدركوا أبعاد هذا الحدث العظيم من تاريخنا، وندرك غاياته ومراميه، وامتداد خيراته في وقتنا هذا، بالمحافظة على تلك الوحدة الجغرافية، والوحدة الأخوية، بالشكر لله، نماءً ورخاءً وعدلاً، وبالحمد له أمناً ومنعة وكرامة، علينا أن نستلهم الدروس والعبر، وأن نحافظ على أمن وطننا ووحدته واستقراره، وحمايته من المتربصين والحاقدين والحاسدين، والمغرضين وأصحاب الأهواء، الذين لا يريدون لنا الخير، وعلينا أن نكون يداً واحدة، وصفاً واحداً، وكلمة واحدة، مع قادتنا وعلمائنا في كل ما يكون سبباً في خير أمتنا وصلاحها وفلاحها.. وعلينا قبل هذا وذاك أن نتذكر قول الله تعالى ونعمل بمقتضاه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}. أسأل المولى سبحانه أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا ويؤيد بالنصر والتمكين جنودنا البواسل المرابطين على الثغور والحدود، ومن يحفظون أمن البلاد واستقرارها في كل مكان.. والله ولي التوفيق. د. ناصر بن محمد المنيع - عميد الدراسات العليا - أمين المجلس العلمي