قبل الحرب العالمية الاولى كان التعليم لدى الشعوب المتخلفة يقتصر على تعلم القراءة والكتابة والمعلومات الأولية من العلوم المختلفة في دور العبادة، أي ما يسمّى ب(الكتّاب) حيث لم تبلغ تلك الشعوب مرحلة التطور الصناعي الحديث. اندلعت الحرب العالمية الاولى بهدف السيطرة على الشعوب المتخلفة واستغلالها كمصدر للمواد الخام واليد العاملة الرخيصة وأسواق لتصريف البضائع. وبعد أن قسمها الاستعمار على أساس اثني أو طائفي أو مذهبي... الخ إلى دويلات متناحرة، سعى لبسط نفوذه العسكري على عملية التنمية في تلك الدويلات بحيث تبقى تابعة وغير قادرة على التحرر منه. ولكن الثورة الروسية عام 1917م أي قبل نهاية الحرب بعام واحد، أخرجت روسيا من الحرب وفرضت على الدول الغربية مبدأ -حق الأمم في تقرير مصيرها- أي ليس من حق الدول المتقدمة الهيمنة على الدول النامية عسكرياً. وهكذا نشأ أول توازن دولي يمنح الدول النامية الفرصة للسيطرة على مقدّراتها. بيد أن الدول الاستعمارية تحايلت على هذا القيد الدولي الجديد، ولم تنسحب عسكرياً إلا بعد تنصيب حكومات موالية لها، تدير شئون التنمية الاقتصادية والبشرية وفقاً لما يحتاج إليه الرأسمال الأجنبي. بالإضافة إلى الاقتصاد وحيد الجانب عمد الرأسمال الاستعماري إلى إبقاء الدول النامية في حالة من التخلف المريع وأعاق عملية بناء مؤسسات الدولة. من هنا تأتي أهمية السيطرة على التعليم بحيث تكون الكوادر المعرفية مرهونة بالرأسمال الاستعماري، وبالتالي ستكون منفصلة عن هموم النهوض الوطني. فتجد أن أفضل جامعة في أي دولة نامية هي المرتبطة بخدمة الرأسمال الأجنبي المهيمن على تلك الدولة. في محاضرة ل(ساطع بك ألحصري) * بعنوان (الاستعمار والتعليم) نشرت في مجلة الرسالة في 17-2-1936م أي قبل الحرب العالمية الثانية ونشوء الكيان الصهيوني يقول: ((لقد أخذ الأوروبيون بعد الحرب العظمى (يقصد الحرب العالمية الأولى) يهتمون بسياسة التعليم تنفيذاً لأغراض الاستعمار.... وخليق بنا أن ندرس سياسة الاستعمار من حيث علاقتها بالتعليم... ففي أميركا الجنوبية عندما ثار الأهلون (الأهالي) على المستعمرين الإسبانيين كتب القائد العام إلى مليكه يبشره بانتصار جيشه في إحدى المعارك، وكان مما قال في تلك الرسالة التاريخية (إنه عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة وقضى عليهم قضاء ومحاهم محواً وإنه استأصل بهذه الصورة فكرة التمرّد والعصيان استئصالاً تاماً)... غير أن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية... لأن المستعمرين وجدوا أنفسهم في تلك المستعمرات في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد لاستغلال المرافق الاقتصادية والثروات الطبيعية... ولذلك أخذوا يؤسسون معاهد (كليات)... وذهبوا إلى أنه يجب أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي، بحيث يقترب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجاً، وقد فكروا في سبيل تحقيق هذا الغرض أولا بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له طواعية)). فيلسوف القومية العربية ساطع بك الحصري كما تصفه الكثير من المراجع ولد في صنعاء باليمن حيث كان والده موظفاً فيها إبّان الدولة العثمانية. وعلى الرغم من أنه ترعرع في تركيا ودرس في المدارس التركية وكان مديراً لدار المعلمين في إسطنبول، ثم عين محافظاً لبعض الولايات في البلقان، وكانت لغته العربية ركيكة إلا أنه بقي مخلصاً لعروبته، خاصّةً أنه من حلب (مدينة سيف الدولة). وعندما بدأ انهيار الدولة العثمانية (الرجل المريض) وشعر بحسه الثوري أن الوطن العربي ذاهب إلى التقسيم، انتفض لعروبته ووقف بقوّة مدافعاً عن عروبة المغرب والمشرق العربي وضد التقسيم. (راجع: ساطع الحصري نشأته ونشاطه – Google). بالإضافة إلى التحكّم الاستعماري في التعليم بالدول النامية يوجد متسلّط آخر يعيق التعليم الحديث، هو الفقر والجهل الموروث المرتبط به. لذلك تجد في معظم الدول النامية نوعين من التعليم: خاص وعام. * ساطع الحصري (1968-1879م): مفكر سوري/عراقي وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي. وهو أحد الدعاة والمصلحين القوميين الذين زخر بهم المشرق العربي ممن تبنوا الدعوة إلى القومية العربية أمثال عبدالرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان في أواخر القرن التاسع عشر، وزكي الارسوزي ومحمد عزة دروزة في أوائل القرن العشرين. (عدة مراجع – Google) التعليم الخاص يساير المستوى العالمي واحتياجات السوق، ولكنه يقتصر على أبناء الشرائح الاجتماعية التي تستطيع أن تدفع تكاليف التعليم الخاص. وهذه الشرائح هي من الفئات الغنية والمتوسطة الدخل، التي لا تتجاوز نسبتها إلى التعداد العام العشرين بالمائة. كما أن هذه الشرائح يتربى أبناؤها على تشرّب قيم الاستعمار وثقافته، ابتداءً من لغته مروراً بنمط تفكيره وصولاً إلى مشروعية تسلّطه على مقدّرات الأمم. أما التعليم العام فهو تلقيني بامتياز، بحيث لا يدع أي فرصة للتلميذ أن يستخدم قدراته الذاتية، سواء العلمية منها أو الإبداعية، لفهم المادّة التعليمية أو المساهمة في تطويرها. في بحث نشر في موقع الفيس بوك social mkazi villie في 11/مارس 2013م تحت عنوان (مشكلات التعليم في الدول النامية واقتراحات حلها) يعدد الباحث الكثير من أسباب تخلف التعليم في الدول النامية أقتبس منها ما يلي: * اعتماد التعليم بشكل أساسي على التلقين أي الحفظ دون فهم. * عدم استخدام طرق التدريس والوسائل التعليمية والتكنولوجيا الحديثة. * بعض المعلمين غير مؤهلين علمياً. من الواضح أن الباحث يقصد هنا التعليم العام، ويعدد أسبابا أخرى تتعلق بالمباني والأعداد المكتظة من التلاميذ في الفصل الواحد وعدم تعاون أولياء الأمور والعدد القليل نسبياً من المدارس والمعلمين... الخ. ما أودّ الإشارة إليه هنا أن التعليم التلقيني لا ينشئ أعداداً هائلة من غير المؤهلين لسوق العمل وحسب، إنما يصبحون عالة على المجتمع أو ينخرطون بالانحراف والتطرف. كما أن هؤلاء لا يستطيعون المساهمة في التنمية، بل هم أدوات لتدميرها في الدول النامية التي هي في أمس الحاجة لها.