عقلية الإبداع وإيجاد الحلول واتخاذ القرارات الحاسمة وكشف الحيل والأخطاء هي عقلية جريئة، تجرؤ على الخروج عن المشهور المعمول عليه، وتجرؤ على رؤية الخطأ وعلى اتخاذ القرار. ولهذا، فالجرأة الفطرية هي شرط لازم توفره في رجالات الدولة الناجحة، والجرأة لا تتجزأ، فلا تكون في العقل والفكر وتغيب في الأفعال والتصرفات. وإن وُجِدت هذه الشخصية المزدوجة، فإنما هي دليل النفاق وعدم الولاء وتبييت الغدر وممارسة المخادعة. والقائد كلما ارتفعت مسئولياته قل علمه لا فهمه في القرارات التي يتخذها. لذا، فالقيادة هي اختيار الرجال والصبر عليهم. فالقائد يرجح بين الآراء ويطورها - بالطلب وبالتساؤل - إستراتيجياً لا علمياً، ولا يأتي بجديد. واختيار الرجال أمر ممتنع شديد والصبر عليهم أشد. ولهذا تندر القادة في التاريخ، فقائد فرقة الموسيقى من طبالين ومهرجين ليس كقائد فرقة الفرسان، فالفرسان فيهم جموح كجموح الأصايل التي يمتطونها، ولهذا صبر نبينا عليه السلام على جموح خالد بن الوليد - رضي الله عنه. وقد كان النفط خير وبركة، تنزلت علينا ونحن في حالة جهل عن التطور الحديث، وفي حالة تخلف عقلي عن التقدم الفكري. وقد أتانا النفط في فترة سياسية حرجة ومجتمع حديث عهد بنزاعات وفرقة. وبما أن باطن الإنسان من النوايا والمقاصد لا يعلمه إلا خالقه، فليس هناك إلا الظاهر، فكانت الطاعة العمياء والتبعية المطلقة هي مقياس الولاء للدولة. وذهبت الحاجة السياسية مع استقرار الدولة، بينما تأصلت ثقافتها في المجتمع كله الخاص والعام، وحفز ذلك وسَبَبه وفرة ثروة النفط. فكم أُهدر من ثروة النفط على هذه الثقافة. وكشاهد على هذا، وزير البترول، الطريقي - رحمه الله - فلولا وجوده في فترة تأسيس النفط لخسرت البلاد مئات المليارات حتى تصل إلى فكر الطريقي وتتخذ القرارات التي اتخذها - رحمه الله - ففهم الطريقي لسياسة النفط وجرأته على الخروج على العرف الدولي في استغلال الشركات العالمية لنفط الدول جعلته في مواجهة مع العالم كله، حُساد الداخل وطُماع الخارج، وحُساد الداخل أشد كذباً وأخبث حيلة. ومضائق المناظرات والدفاعات تدفع بالرجل لأقوال وأفعال تُمكن أعداءه منه، فينالون منه. فإن كان الفيصل قد عزل الطريقي لجموحه وأثره في تلك الفترة الحرجة، فقد عزل الفاروق خالد بن الوليد. فقرار ولي الأمر هو قرار الأمة كلها، يُسمع ويُطاع، فهو رمز البلاد ورايتها، إن سقطت سقطت البلاد وإن اهتزت اهتز الأمن والاقتصاد. وكم خسر المسلمون بعزل خالد، وكم خسرت بلادنا بعزل الطريقي. فعزل ابن الوليد كان إيذاناً بإيقاف وتيرة تصاعد الفتوحات، وعزل الطريقي كان إيذاناً بإيقاف الفكر الإبداعي المستقل في الإدارة الحكومية. والكفاءة المهنية غير الإبداعية واتخاذ القرارات. فالكفاءة هي إجادة تطبيق المشهور، أي إجادة تعبئة الأبكيشن. بينما الإبداعية واتخاذ القرار هي خروج عن المشهور وعجز فطري عن تعبئة الأبكيشن. ويختلط هذا على الكثير من الناس. وتقدم الدول واستقلاليتها لا يكون إلا بالإبداعية العلمية المنطقية، لا بالكفاءة المهنية. ولهذا حرصت بريطانيا أن تعلم وتدرب مستعمراتها ككينيا والهند وغيرهما، على ألا تتجاوز شعوب مستعمراتها حد الكفاءة المهنية. ولذا انهارت اقتصادياتهم بعد خروج بريطانيا، وتأخروا، إذ لم يستطيعوا إدراك التقدم العلمي الذي يتطلب عقليات إبداعية علمية، جريئة على اتخاذ القرارات. والحال أشد خطورة اليوم، فقد تغيرت الأمور في عصرنا الحالي، فحتى الكفاءة المهنية لم تعد صالحة لاستمرار الحياة ولو كاستمرار حياة قطيع النعاج، وذلك لاختلاف معطيات بناء أبكيشن الغرب عن معطياتنا. لم ينجح أحد بعد الطريقي، ولن ينجح أحد ما دامت الكفاءة هي أعلى مؤهل قد يُطلب في الإدارة الحكومية، فكيف إن كان الغالب هو الكفاءة التهريجية.