إذا كنت تكتب كلمات منمقة، فأنت لست كاتبا/ كاتبة! وإذا كنت لا تحيا حكاية حب، فأنت في الحقيقة لست كاتبا/ كاتبة! هل غادرتك الطفولة، إذن عفوا ، لا تغضب مني ، لأنك لن تكون كاتبا/ كاتبة في يوم من الأيام ! فالكتابة تتجاوز صف كلمات منمقة، أو قصيدة مقفاه وموزونة، لتؤكد أنها فكر باسق وحر يلد كلمات مسربلة بروح مفعمة بحياة سرمدية، وهذا الفكر هو الذي يدير دفة حياتنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا مع من حولنا :البشر، الأشياء، الكائنات التي تشاركنا هذا الكون، وهذا الفكر ذاته هو الذي يهذبنا كأفراد وكمجتمعات، وهو الفكر الذي يقوينا ويحمينا من أخطار الحياة، وينير للآخرين الطريق. الكتابة حكاية حب شقية، رقيقة، متمردة ترفض أن نحياها بسرية، تقربنا من مساءات عواطفنا الباذخة، ويتعالى صوتها فينا عندما يجتاحنا شجن ناي، أو عندما نرى عاشقين يعبران مساء حالم، أو عندما نستنشق شذى ياسمين صباحي، أو عندما نرى أيادي صغيرة متشبثة بأكتاف أمهاتها يبتسمون لنا، أو عندما نلمح قفزات عنزات صغيرة بين سهول خضراء شاسعة. والكتابة حالة تحفر وعيا في تفكيرنا، وهذا الوعي يساهم في عزلتنا معظم الأحيان، حيث نجد عالم في داخلنا يستوعب أسنة أسئلتنا، ينصت إلى ريح جنون رؤانا، وهذا الوعي أيضا ذاته يغيرنا نحن أولا، ويمنحنا ثقة بأننا قادرون أن نغير العالم. والكتابة ليست إلا فن إنسانيا موسيقيا ومسرحيا وغنائيا وتشكيليا وفلكلوريا راقص حيث يشعر الكاتب عندما يكتب نصا كما لو أنه يعزف لحنا، ويرسم لوحة ويغني ويرقص في آن واحد. والكتابة كراقصة الفلامنكو متأهبة دائما لنصرة النساء، وهي كغيمة تبتسم لشالات الصبايا، وعندليب يغني لقلوب الأمهات، وهي مثل كمان يزعجه طول انتظار الحبيبات لمن أحببن. الكتابة تزيدنا جنونا عقلانيا، يخيفنا، ويبهجنا، ويرهقنا، فيوجد صراعا في أعماقنا ومع العالم الذي نحيا فيه، هذا الجنون هو الذي يجعلنا وسط ذهول الآخرين نتحدث عن نور قادم ويدفعنا نحو العتمة لنفتح كل النوافذ لاستقباله لأننا وحدنا نرى ملامحه تقترب منا ولا يرونه. والكتابة عملية نضال مستمر ضد كل ما يوقف الحياة ، فهي حربا على أعداء الحب الفرح والبهجة والمرح والموسيقى والرقص والطفولة وفنون الحياة. الكتابة تنبت لنا دون أن نعلم، حواسا إنسانية وأخرى جمالية، ولا تكتفي بذلك تجعل حواسنا الجمالية مستيقظة دائما وفي كل مكان، فنرى الجمال في تفاصيل صغيرة جدا وننزعج من المشاهد والكلمات والأصوات التي تفتقد فلسفة الجمال. والكتابة لها علاقة حميمة بطفولتنا فهي عندما هي تكون هبة من الله لنا، فتقوم الكتابة بحراسة طفولتنا في أعماقنا، تراقب نمونا كأم حنون، وتحتفي بنا عندما تلامس أيادينا سياج مواسم الزهر، وتبقى فينا طفولتنا، فنمارس شقاوتنا وشغبنا وعواطفنا ودهشتنا وبكاءنا وضحكاتنا بحرية عبر الكلمات والأسئلة والألوان، وبفعلها هذا تجعلنا أشبه ببلور رقيق، وتجعل كتاباتنا أكثر صدقا، فالكتاب الرائعون هم أطفال. والكتابة تخلصنا من حدود الأمكنة الجغرافية، وموروثاتنا العتيقة، ومسلماتنا، وتجعلنا لا نرى سوى الإنسان فقط، بؤسه وشقاءه، وكده، وتعبه في أي مكان، نرى أنفسنا فيه، فنحاول أن نناصره. الكتابة تلبسنا ثوب الغرور تارة، وثوب العظمة تارة لتستمر علاقتنا بها ومعها، وربما تحاول أن تخفف عنا الإحباطات التي تربكنا من وقت لآخر بسببها فتكافئنا بذلك، فتوشحنا بأوسمة النبلاء، وتتوجنا ملكات وملوكا عظماء. أعتقد يكفينا من الكتابة أنها تبقينا أطفالا في مراجيح ضحكاتنا الوردية للأبد. - تركية العمري