(يتحول الكاتب من فرد عادي إلى نموذج ثقافي يتسم بصفات وجودية وصور ذهنية وهيئات تخييلية، تتجدد فيه وتتولد له مع تقلب حيوات النص) [د. عبدالله الغذامي]. لا أحصي عدد المرات التي قرأت فيها مقالة (شرف لا يستعار) للكاتبة هدى الدغفق، ولا أحصي كم مرة فكّرت: لماذا أعيد قراءة هذه المقالة؟ ولو استطعت أن أعرف عدد مرات هذا التساؤل لتمكّنت من معرفة عدد مرات فشلي في الإجابة عنه. جاء في المقالة: «لذلك أو سواه فقد عشت الأمومة في حياتي كلها، حيث... تبنّيت الأشجار، والعصافير والنجوم والكواكب والأفكار...». لم يخطر ببالي أمام هذه المقالة سوى إجابة محمود درويش في أول حوار أُجري معه، قال: «وفي السجن اكتشفت الشجر بكل ما فيه من مودة كردّ فعل للون الرمادي، وهكذا تصبح الألوان مثار اهتمام من نوع جديد، ما زلت أقول: إن النفي الحقيقي للإنسان هو أن تبعده عن الشجر، كل عشية تتحول إلى رمز، في السجن تكتشف علاقتك الحميمة بالناس، ويزداد الانتماء حنانًا، وترى أهلك من زاوية أخرى لم تنتبه لها من قبل». تبدو خلف مقالة (شرف لا يستعار) نفْسٌ متدرّعة بجبروتٍ روحي متين، شعرتُ بها وأنا أغوص في أعماق كلماتها التي تشفّ عن قوة نفسية هائلة، وتوظيف للتفاصيل الصغيرة لصالح الذات، تتعالى بها على موجات الإخفاقات - إن كان صوابًا وصفها بأنها إخفاقات -. في الذات حيث تصبح الخواطر كونًا آخر مستقلاً.. له مجراته، وله ناسه، وله ليله ونهاره، وفيه الفرح وفيه الحزن، وفيه كُتّابه المشغوفون بالكتابة، وله قرّاؤه النَّهِمون بالاطلاع.. هناك يمكن للإنسان أن يسخر لآلامه كل شيء... كل شيء... حتى الكتابة التي يقال: «إنها عمل تحريضي، يحرّض الذات ضد الآخر»، وهو ما يتوارى خلف عبارة الكاتبة: لقد عشت الأمومة في حياتي كلها حيث جعلت من الكلمات بناتي، والمعاني أبنائي. الآن أدركتُ قيمة الكتابة، وكيف يمكن أن تكون الكتابة أسرة كاملة، يكون الكاتب أو الكاتبة فيها أحد الوالدين، وتتحول الكلمات والمعاني إلى أولاد يركضون على مساحة الورقة، يدهشونك بابتساماتهم، فكلما كتبتَ فكرة وأحسستَ أنك أجدتَها نظرتَ إليها بزهو الأب وهو يتأمل ابنه الذي صار فتى جالسًا بين الرجال وقد أحسن تربيته، وتأملتَها تأمّل الأم وهي ترنو إلى صبيتها والنساء يثنين عليها، وربما أشجاك هؤلاء الأطفال بمناكفاتهم، فكلما تعاركت الألفاظ مع المعاني في ذهنك شعرت بتوتّر الوالد وهو يشكو من مشاجرات أولاده... ما الذي تفعله بنا الكتابة؟ أهي فعلُ هرَبٍ من شيء ما؟ أم هي فعلٌ تعويضي لما هو مفقود؟ لا شك أن الكتابة أيضًا مثل القراءة، ففي وسعها أن تُحيل ما نكتبه جزءًا من تكويننا العقلي والروحي، يقول دونالد موري: «النصوص التي نخلقها أثناء القراءة أو بعدها تصبح جزءًا من الحياة التي نعتقد أننا عشناها». والكتابة تسلك في أعماقنا هذا المسلك التكويني. ولا ريب أن «الذات وهي تكتب إنما تفعل ذلك لكي تدل على كل ما هو مفقود منها، وبذا فهي لا تدل إلا على ما هو سواها وما هو غيرها، وكأنما الذات - هنا - تنفي نفسها من خلال الكتابة مثلما أنها تنفي الآخر بتجاوزها له». ولئن ظهر الكاتب أو الكاتبة في نصه شاكيًا متألمًا من واقع ما فإنه من زاوية أخرى يتعالى بمثل هذا البوح على وجعه، ومن هنا عرّف بعضهم الشعر بأنه: التخلّص من المشاعر. ومن هذا المنطلق أيضًا قالت إحدى الكاتبات: الكتابة رئتي الثالثة.