لماذا حين تكون لحظات التجلي للشاعر تبتعد سهام الناقد وعندما تخفت تلك اللحظات يستيقظ الناقد؟ هذا السؤال لم أطرحه باعتباري شاعرة ولا باعتباري ناقدة ، بل إنّ مقالة د. سعود اليوسف: «المشاعر واختطاف التأويل» فتحت في ذهني آفاقًا متعددةً لكنها معقدة ومتشابكة. وعودًا على بدء، أعتقد أن السؤال السابق هو أحد الأسباب التي أدت إلى كثرة الدراسات والتأويلات للشعر القديم، بينما أظن أن الشعر المعاصر هو بحاجة إلى جيل آخر سيأتي لاحقًا للقيام بدراسته، على أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن الشعر الحديث يُعَد في نظري خارج التصنيف، بمعنى أنّ العصور الماضية كان يغلب عليها – إنْ صحّت العبارة - التخصص في شيء ما، فهو في عصر النبوة مثلًا استخدم للدعوة، وفي العصر الأموي استخدم لرفعة قبيلة وانحطاط أخرى، علاوةً على أنّ مشاعر الشاعر ومشاعر المتلقي لا تنتظر أحدًا ليحاكمها، والمشاعر هي الحقيقة اللحظية التي نعيشها، ليست أمرًا ماضيًا، ولا إحساسًا مستقبليًا لا نملك إلا أن نعيشها بكل تفاصيلها. وثمة ملحظ أخذته عن الناقد الشاعر د. سامي العجلان ورأي تأملته كثيرًا يقول: إنّ وظيفة الشعر هي استخراج ما في اللغة من جماليات، فالشاعر مثلًا حينما يتغزل فهو يتغزل باللغة، بمعنى أنّ المرأة في قصيدته هي معادل موضوعي للُّغة ليظهر ما فيها من روائع وهكذا. وبين هذا وذاك ثمة قصائد حين تقرأها لا تجد فيها الهم العام الذي يعنى به الناس، أو أن القصيدة كلها تحاكي رؤية معيّنة لدى الشاعر ورؤية أخرى لدى المتلقي، وأقصد بالرؤية هنا النظرة العامة التي يشكلها بناء القصيدة بعيدًا عن التفاصيل، وهاك مثالًا يوضح المقصد: قصيدة «انخطاف» للشاعر د. سامي العجلان: تسحرني كل احتمالات الوجود خلف هذا الأفق المنظور خلف منحنى الشفق تأسرني المسافة البيضاء بيان كائنات الحبر حين تسبح الظنون فوق لجة الورق يبهرني ما لا نقول عندما نزعم أننا نقول عندما تخنقنا قبل اكتمال البوح موجة القلق. يتحدث فيها الشاعر عن الحالة الشعرية لديه، عن محرضات الشعر، بينما بإمكاني تجسيد القصيدة على حالتي المشاعرية بحيث تدور القصيدة على لسان شخص أعمى يتطلع إلى العالم المشاهد، إلى البوح، والمسافة البيضاء هي رمز للنور، وكائنات الحبر هي رمز للسواد. وذات الأمر ينطبق على قصيدة د. خالد الدخيل: «نقش على رقاع الحزن»: جاءت الأخبار تجري في دمي تنقش البعد وأحزاني الرقاع وبدا الهم إمامًا باسمًا عارفًا بالدرب للقلب المضاع ثم حل القلبَ والقلب بكى وشكا للعين فانهل الوداع وانهمار الدمع يحكي قصتي أين ذاك الحب؟ ضاع الحب ضاع. وكأنها في نظري تدور حول الوطن بمعناه الأرض، الحياة، وليست عن هم مخصوص. ومثال أخير قصيدة «هذا الصمت مبحوحًا وهذه أصداؤه»: للشاعر د. سعود اليوسف والتي منها: حمل الغروب جنائز الأضواء فبقيت أنحت في السكون رثائي وتلمظت شفة الظلام بقيةً وجفت آخر الأضواء فغمست في شعري يراع مواجعي وسكبت في نفسي مداد غنائي تقتات أسئلتي الصدا فيمجها فتمجني في حيرتي وشقائي جدب ويورق بالظنون تساؤلي ألهالك الآمال جهد بقائي؟ أول مرة سمعتها في الشبكة العنكبوتية – دون أن أعرف مناسبتها - كنت حينئذ أشعر كأنني كمن يهيل على نفسه التراب: أصبت بحالة اليأس التي تقتات على مشاعرنا بين الغوص في حيثيات البحث العلمي، واستنطاق التساؤلات ، والبحث عن الأجوبة، بل ومذلة الرغبة من أجل قراءة كتاب، وبين البحث عن كسر الروتين، عن الصديق الذي يشاركني الاستراحات الشعرية والثقافية. وبين الشعور بالخيبة إزاء وضع المكفوفين الثقافي، وماذا عن هذا الشاب الكائن في هذا الوجود؟ وماذا عن ذاك الطفل الذي ينتظر حصته من الأدب؟ فشعرت أنّ القصيدة لامست مشاعري بكل ما فيها ، ثم قرأتها مرة أخرى فشعرت أن الشاعر يتحدث ربما عن فكرة التعبير الأقرب لها مفردات عنوان قصيدته الأخرى: «البحث عن منفى أو حتى عن وطن». يظل التعبير الموارب هو الذي يفتح آفاقًا جديدة، وهو طعام النقاد، إذ يختفي الشاعر خلف أسوار من الكلمات التي تجعل بينه وبين المتلقي بحراً لا ساحل له، فلا يعبر الشعر عن شخصية الشاعر الظاهرة لنا، وأيضًا ليس بالضرورة أن تعبر مفردات القصيدة ومضامينها عن وجه آخر للشاعر، أشعر أن القصيدة إما أنها وليدة شعور ما إثر موقف أو مشهد، أو أنها وليدة انفعال ما يزول بعد مدة وهذا ليس إيمانًا مطلقًا بانفصال النص عن ذات الشاعر، لكن ربما من مقتضيات العصر منح النص حرية أكبر في قضية التأويل، ولا أدري إن كان من المباح لنا أن نصبح نقادًا؟ وهل تختلف القراءة النقدية عن المناهج النقدية؟ لكنها تجليات على مرافئ التفكير.