من غرائب الزمان التقاء رأي بعض المغردين السعوديين مع رأي قادة الحشد الشعبي الشيعي حول الفلوجة. الطرفان يزعمان أن حصار وتجويع وقصف الفلوجة (المستمر منذ سنوات) يهدف إلى القضاء على المعقل الأهم والأشرس والأصعب لتنظيم داعش الإرهابي. الطرف الأول يكذب، إما جهلاً بالحقائق أو تجاهلاً لها، والطرف الثاني يكذب لأن ذلك من تدبير وإملاءات السياسة الإيرانية. المعاقل الرئيسية والصعبة لداعش هي الرقة في سوريا والموصل في العراق. الفلوجة ليست كذلك، لكن هذه المدينة الصغيرة لها خصوصية مختلفة يعرفها الاحتلال الأمريكي وتخافها الميليشيات العراقية الإيرانية، ويتوجب على المغردين السعوديين في نفس السرب أن يدققوا النظر في الوقائع على الأرض احتراماً لدماء الأبرياء وشرف المقاومين للاحتلال الأمريكي والإيراني. الفلوجة مدينة عراقية متوسطة إلى صغيرة الحجم معروفة عند العراقيين بالشجاعة والكرم والمحافظة، ولكن ليس باللؤم والعدوانية. هذه المدينة كانت أول من ثار بالكامل على الاحتلال الأمريكي البريطاني عام 2003، ووقعت فيها انتهاكات انتقامية تماثل بشكل مصغر انتهاكات الجيش الأمريكي للعراق والعراقيين. منذ ذلك الحين تحولت الفلوجة في المفهوم الأمريكي والحكومات العميلة إلى رمز للمقاومة ضد احتلال العراق. بهذا المفهوم شارك الصدريون الشيعة وبعض فصائل البيشمركة الكردية في الدفاع عن الفلوجة ضد الأمريكيين في بدايات المقاومة، ثم فرقتهم الأحزاب السياسية. في تلك المعارك الأولى هدم الأمريكيون الفلوجة وهاجر سكانها إلى الصقلاوية وبغداد، ثم عادوا لاحقاً بعد وساطة ضابط عراقي كبير نسيت اسمه. العائدون شاهدوا مدينتهم أطلالاً ممتلئة بالجثث المتفحمة، ومساجد مهدومة على المصلين، وأجساداً مقطعة في الشوارع. عضّوا على أسنانهم وحاولوا إعادة الحياة إلى مدينتهم والاستمرار في المقاومة، وكان ذلك قبل أن تكون هناك لا قاعدة ولا داعش. أهل الفلوجة عراقيون أصلاء لا يقبلون الاحتلال الأجنبي. هذا الإصرار على الحياة والمقاومة كرّس عند الأمريكيين والحكومات العميلة رمزية الرفض في شخصية الفلوجة. توجد ثغرة في تاريخ انتشار الإرهاب القاعدي ثم الداعشي في المدن العراقية السنية تحديداً، بعد انفلات أو إطلاق آلاف السجناء من أبو غريب وبوكا، ليس ليغطسوا ويختفوا ويقاوموا في بغداد العاصمة الكبيرة ضد الاحتلال، وإنما للتحكم الإرهابي في تكريت والفلوجة والرمادي والموصل، ثم التمكن الجغرافي الأوسع بالحصول على الأموال ومنابع النفط والسلاح الحديث من مخازن الجيش العراقي. كان المحتل الأمريكي يتفرج وربما يوجه ويدير، وكانت فوضى ظاهرية ولكنها محكومة جغرافياً بكل دقة، والأرجح أنها أُديرت ضمن سياسات الفوضى الخلاّقة المعروفة. الآن يوجد في مدينة الفلوجة قرابة خمسين ألف مواطن، ثلاثة أرباعهم نساء وأطفال، وحسب التقديرات العسكرية والاستخبارية يوجد بينهم ستمائة إرهابي داعشي، ولكن القوات المحاصرة حالياً للفلوجة تتكون من عشرين ألف مجند عراقي وثلاثمائة مستشار أمريكي ومجموعات غير محددة العدد من الحشد الشعبي الشيعي برئاسة قاسم سليماني وهادي العامري وأوس الخفاجي، أي عتاة الطائفية والإرهاب. على الأرجح سوف تهدم الفلوجة مرة أخرى ويقتل الكثير من أهلها ويُشرّد الباقون، وسوف ينهب الحشد الشعبي ممتلكاتهم مثلما فعل في تكريت والمقدادية والرمادي. هذا هو واقع الفلوجة، وهو رمزي أكثر منه قوة عسكرية، وإصراراً على مقاومة احتلال العراق والمحتل الذي ساهم وربما رتّب لفرض الإرهاب الداعشي عليها لتبرير المحرقة. هذا ما أرجو فهمه من قِبل دعاتنا الهائجين المهيّجين من على سرر مرفوعة، ومغردينا الجاهلين أو المتجاهلين للوقائع في العراق.