لم يعد الليل ساكنًا، ها هو ينطفئ كل ليلة بصخب لا مثيل له! صوت المكيف الأرعن الذي يخدش بياض الحلم المقيت، وحفيف الغطاء الذي يتكور تحته الوسواس كل ليلة مثل قط مبلول، زجاجات الماء الفارغة التي يدحرجها الهواء الكثيف، والكثير الكثير من العبث الذي تمارسه عقارب الساعة مبتورة الرأس! هناك صرير لأرجوحة بعيدة ثبتت بطريقة عكسية بلا اكتراث فتحولت إلى مقصلة، ووقع أقدام لحارس البناية وعجلات برميله الكبير الذي يجمع فيه القمامة، يكنس عن درجات السلم بقايا النهار وأعواد الخلة التي تركها الزوار أثرًا من وليمة الليلة الماضية، يصعد خطوة خطوة بينما تتساقط أحلامه مثل تفاحات نيوتن، وينزل خطوة خطوة موزعًا فتات ماضيه على السلالم، لا أظنه يقصد بذلك أن يصبح سندريلا بنسخة ذكورية، ولا أظنه سيضيع درب «الصعود» فيختار حيلة هنزل وجريتل! على السقف قرب المصباح الأصفر تطن ذبابة لحوحة تشعر بدوار اللحظات الأخيرة، توهم نفسها أنها مسكونة بروح البجع الذي يرقص «مذبوحًا من الألم»، فتدور مثل أوديت بانتظار الأمير بقلبه النقي على صوت قهقهات تشايكوفسكي الذي يراقبها بسخرية مرة! خلف الجدار الملاصق نقرات على آلة قديمة للكتابة، فقدت لوحة مفاتيحها زر المسافة لتتكدس الكلمات إلى جانب بعضها البعض بلا اهتمام بقاعدة ال «finger space»، بجذل تصطف الحروف بأكوام أفقية على الأسطر الباهتة مثل طابور لأطفال الروضة، متعرج ويثير الكثير من الجلبة والمرح! تعلو هتافات الرجال الذين يتابعون مباراة نهائية في المقهى القريب، يمكن لأصواتهم التي ترتفع بفارق دقائق منتظم أن تكون منبهًا بدلًا من زر «الغفوة» في الجوال، سيكون ذلك خيارًا مناسبًا كي لا تستغرق في كابوس لعين يتكرر كلما أغلقت جفنيك، ثم يمكن لقرقعة الأطباق المتسخة والفناجين المثلومة أن تكون «موسيقى تصويرية» لحلم البياض المغرق في البياض الذي يتخطفك كل ليلة! تتسلل خشخشة وبر السجادة الذي تثيره أقدام حافية في الطابق الأسفل بحذر، في الوقت الذي تتساقط فيه قطرات ماء الاغتسال من يدين فرغتا للتو من دعك عجينة فطائر سميكة لغداء الغد، وفي الوقت نفسه الذي يخفق فيه صوت الآلة الرياضية لمحو آثام طقطقة الزيت الكثيف من الجدران. ترتطم المكواة بأزرار القميص الخشن نصف المفتوح، تقضم بعضها وتترك الآخر يتدلى مثل كرة «اليويو»، ويعلو نفخ مجفف الشعر في تذمر واضح يترك على الرأس رائحة كتلك التي تنبعث من رأس الخروف المنتوف والملسوع بالنار تحضيرًا له ليكون وليمة الأسبوع القادم! اسمع! ثمة عصفور ينقر نافذتك، إنه يدعوك ل»طيران الليل» فاستجب..