كي تتعرفَ على المسافات التي قطعها الزّمن جريًّا, وأنت غافل، يكفيك أنْ تزورَ بلدًا قد زرته في مقتبل العمر، ثُمّ تعود إليه بعد سنوات؛ لترى كم لحقه من التغيير. المدنُ يمكنها أنْ تُخبرك بأنّ كلَّ شيءٍ يمكنه أنْ يكبرَ؛ ليفوقَ حدودَ مُخيلتك! ستُخبرك بأنّ للزمن أقدامًا سليمة, تركضُ بهِ, حتى وإنْ توقفتَ أنتَ! (2) الناضجون أكثر الناس بؤسًا في هذا العالم! خاصة إذا كانوا رموزًا أمام من يعولون, ويعيلهم. مشاهد الأخبار.. مقاطع الحزن.. ترنيمات محزنة لو بكينا منها أمام أحد سنحال بعدها للتحقيق. وستبدأ قراءات الذات؛ لنجد أنفسنا على مشرحة المقاصد! ما الذي سيحدث لو تعاملنا مع البكاء كتعاملنا مع الضحك؟ أليس كلاهما مشاعر؟! من أباح للأول دخول معمل التشريح, والثاني المرور بسلام؟! إنها العادات, والعرف فقط! وحدهم من خبروا الحياة جيدًا لا يسألون! لأنهم يعلمون ماذا يعني البكاء. (3) يحدثُ أن نَملَّ بعض الأمكنة. لا لشيء إلا لأننا ضجرنا من الرتابة. ماذا عنها هي؟! لم نفكر مرة واحدة في أنّها مثلنا؛ يمكنها أن تضجر منا, وتمل! الفرق بيننا وبينها أننا لدينا القدرة على أن نُعبّر عن استيائنا، أما هي فلا يمكنها فعل ذلك. اشتهرت في نجد مقولة: (يا صبر الأرض!) في نظري: إنّ هذه المقولة من أصدق المقولات المُعبّرة عن شناعة إنسان العصر. فالأرض صابرة، ولعلها محتسبة في تحملها لنا. فقد تحملت كل ما يفعله الإنسان بحماقاته على ظهرها. لوَّثها.. عادى الطبيعة.. سفك الدماء.. دمَّر.. سلب الأرض عذريتها. وهي كلّ يوم تتحمل خَطْوه الثقيل على ظهرها، دون أن تمتلك أدنى قدرة على الصراخ في وجهه؛ لتقول له: اغرب عن وجهي! (4) عندما نؤثث لحياتنا بأرواحنا سنحب ذلك التأثيث مهما عَتِق! سنتفقده كما لو أننا نتفقد صغارنا! سنرعاه كما لو أننا نرعى مولودنا الصغير. سنخشى عليه من الغرباء. أولئك الذين لا ولن يعنيهم كم مرة زرنا تلك الأمكنة؛ لنختار منها ما يتناغم مع أرواحنا. ليحلّ ضيفًا جميلاً، انتقته الرّوح؛ فاحتل قطعة منها؛ يصعب تركه, ويصعب تغييره.. حتى ولو عُوضنا بما هو أجمل منه, مما اختير لنا, ولم نختره! (5) من أوجع ما يمر بالمرء بعد رحيل الأحبة أن تلامس ذاكرة المكان جرحه! أن تنكش صمته, وتُذيب جليده. (6) غيَّرت مكاني الذي اعتدت الكتابة فيه إلى مكان أجمل, وأكبر, وأكثر هدوءًا. يدخله النور من كل مكان. لكنني مذ غيرت لم أستطع كتابة جملة واحدة! وفي كلّ مرة أُرجع السبب إلى أنَّه: ربما لم أعطِ لنفسي ولا للمكان الوقت الكافي للتأقلم. فثلاثة أكواب من القهوة على شرفة ذلك المكان الجديد لا تعني أننا أصبحنا أصدقاء لدرجة البوح! مضتْ المهلة التي منحتها نفسي للتعارف, والتأقلم, وعدت أدراجي إلى حيث كنت: مكاني الذي اعتاده فكري. الكتابة كالمذاكرة التي تتعسر بولادة أمكنة جديدة! (7) الزِّقاق العتيقة على الرغم من ضيقها إلا أنها تتسع لكلّ الحكايات التي عبرتها. إنّها قادرة على أن تمنحنا فرصة تصور الحياة بين زمنين متباعدين، يتلخصان في: كان, وصار. - د. زكية بنت محمد العتيبي [email protected]