هذا البحر العذب في نظري جعلني أقف غير مرة متفكراً في مصدر جمال إيقاعه، بيد أني فوجئتُ لكثرة ما يقع الشعراء فيه من خلل، والمفاجئ أكثر أنْ يقع فيه شاعر كالبحتري.. قال الآمدي في باب اسمه: باب في اضطراب الوزن، وهو يوازن بينه وبين أبي تمام: «وما رأيت شيئاً مما عِيب به أبو تمام إلا وجدت في شعر البحتري مثله، إلا أنه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل، وقد جاء في شعر البحتري بيتٌ هو عندي أقبح من كل ما عيب به أبو تمام في هذا الباب، وهو قوله: وكذلك وجدته في أكثر النسخ وهذا خارج عن الوزن». وربما يكون للراوية أو الناسخ يدٌ في كسر بيت البحتري بنقله خطأً، إلا أن الآمدي ذكر أنه وجده في نسخ متعددة، كما أنه لا يُتصور أن يستبدل الراوي كلمة الفردوس بكلمة الخلد التي يستقيم بها الوزن؛ وذلك لفرق ما بين الكلمتين في الطول، ولكن هذا ربما يقع، فقد وجدت بيتاً للوزير المغربي في مقدمة الشيخ حمد الجاسر لكتاب الوزير: أدب الخواص، نقله الشيخ حمد من كتاب (أعيان الشيعة)، ولم أقف على الكتاب، يقول البيت: والخلل في البيت واضح، وقد وقفت عليه سليمَ الوزن في معجم الأدباء لياقوت الحموي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وهذه صياغته: وأرى أن وقوع الشعراء المتقدمين فيه دليل على صعوبة ضبط هذا البحر، وحين تتّبعتُ بعض شعراء العصر الحديث، وبعض المعاصرين؛ بدا لي أن هذا البحر شائع الاستعمال عندهم، وأنه كما ذكر الأديب عبد الله الطيب في كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب: «قد أكثرَ المعاصرون من هذا البحر حتى أطلق عليه بعض المتهكمين لقب بحر الشباب؛ لكثرة ما تنشره الصحف منه». ووجدتُ أن كسر الوزن في الخفيف وارد وروداً ظاهراً، فطاهر زمخشري يقول في قصيدة له عنوانها (في الحديقة): فكلمة (شع) كلها زائدة في الوزن. ويقول أيضاً في قصيدته (صميم الحياة): ولعل خطأً طباعياً وقع في البيت، تصحيحه (والحواري تلك التي كنت أحبو)، وربما لا يتّفق سياق البيت مع التصويب الذي اقترحتُ. ولعمر فروخ قصائد ومقطوعات ينشرها في خواتيم مقالاته التي جمعها فيما بعدُ في كتاب سمّاه (غبار السنين)، يقول في إحداها: ولعل الصواب (وإني أحدّث الناس فردا). ولمنصور دماس قصيدة نشرها في الجزيرة الثقافية، في العدد 325، عنوانها (انشطار)، وضمّنها فيما بعدُ ديوانَه (نفسي الفداء)، وهي قصيدة يعارض بها سينية البحتري، وقع في أحد أبياتها في خلل عروضي، يقول: كما اختل الوزن لدى السيد الصدّيق الشاعر المصري في قصيدة له يعارض بها سينية البحتري أيضاً، وهي في ديوانه (واحة في الهجير)، يقول: ويقول علي محمد صيقل في قصيدة النخيل في ديوانه (أغنية للوطن): ولو قال مثلاً: وإذا النخل لم يجئنا شموخاً؛ لاستقام الوزن. ويقول أيضاً في البيت الذي يليه: والخلل في هذا البيت واضح وضوحاً تعجب معه أن يقع فيه شاعر في مستوى علي صيقل. ويقول محمد بن سعد الدبل في قصيدة فك أسري، وهي في ديوان (معاناة شاعر): ولا بد من إشباع كسرة حاء (الفسيح) لتنتج ياء يستقيم بها الوزن. وفي مجلة أفنان (العدد التاسع، 1424ه) الصادرة عن نادي تبوك الأدبي يقول عبد الرحمن العمري في قصيدةٍ على الخفيف اخترت بعض أبياتها المكسورة للاستشهاد: ولعلي بن صالح الغامدي في ديوانه (عواطف هائمة) قصيدةٌ عنوانها: فرص السعد، يقول في بعض أبياتها: ولم أقف على علّة واضحة، أو سبب ظاهر يمكن الاعتماد عليه في تعليل انكسار الوزن عند الشعراء المعاصرين خاصة - مع أنني لو وجدتُ سبباً لَما جوّز ذلك للشعراء أن يقعوا في هذا الخلل - إلا أنني مطمئن إلى قول الأديب عبد الله الطيب: إن هذا البحر لا يقرب إلى الأسجاع قربَ السريع، وأنه مشابه للمديد، وهذه الصفات سمّاها هو صفاتٍ سلبيةً. وأرى أن في الخفيف جنوحاً للهدوء، فنغمته ليست ظاهرة كغيره من البحور التي تُشعرك وأنت تقرؤها بقفزات التفعيلات، كالمتقارب، والوافر، فالقارئ يمكنه ببساطة أن يكتشف أي خلل بسبب رتابة الإيقاع في تفاعيل هذين البحرين. كما أنك لا تحسّ في الخفيف بتباين التفعيلات التي تجدها في الطويل والبسيط التام، وخصوصاً أن تفاعيلهما رباعية في كل شطر، ولهذا كان نغمهما رتيبَ الإيقاع. ولكنْ أيكون خفوت الإيقاع في الخفيف مسوّغاً لأن يفشو فيه الخلل عند الشعراء؟ لو سلمّنا بذلك لعذرنا الشاعر إذا كسر الوزن كذلك في المنسرح، والمقتضب.