نواصل مع ترجمتنا لدراسة نادرة جداً كتبها الباحث الألمعي د. تامر مصطفى، أستاذ مشارك في الدراسات الدولية في جامعة سايمون فريزر، فانكوفر، كندا. وهو مؤلف كتاب: «الصراع على السلطة الدستورية: القانون والسياسة والتنمية الاقتصادية في مصر»، نيويورك، قسم النشر بجامعة كامبريدج، 340 صفحة ، عام 2007. ونشرت هذه الدراسة في ديسمبر 2010. وستشكل هذه الدراسة أحد فصول كتاب تحت الترجمة بعنوان مؤقت: «إمكانية تطبيق حد الردة عبر القانون الوضعي في دولة إسلامية» والذي سيصدر في عام 2017 بحول الله: وقضت المحكمة الدستورية العليا بأن قرار وزير التربية والتعليم كان يقع تماماً ضمن حقه في تنظيم الزي المدرسي، وأنه لم يخالف أبداً المادة ال46 من الدستور، والتي فسرتها المحكمة بأنها تضمن أنه «لا يجوز إرغام أحد على الاعتقاد بدين لا يؤمن به، أو أن يعترف علناً بالدين الذي يلتزم به، أو أن ينسحب من دين اختاره، أو أن يفضل ديناً معيناً على حساب آخر، عن طريق الازدراء أو التشنيع، أو الرفض». وبهذا الحكم، دخلت المحكمة بصورة أعمق في أعمال القضاء الدستوري حول قضايا الدين والسياسة العامة؛ ولكن حكم النقاب، كما شرح لومباردي وبراون (2005)، يُعد مثالاً جيداً لكيفية تفسير المادة الثانية من الدستور وتطبيقها بدون أن يؤدي ذلك تلقائياً إلى زيادة التمسك بالدين في المجال العام. قضايا في المحاكم المدنية والإدارية ظهرت قضايا الحسبة كسبيل آخر للتقاضي الإسلاموي في التسعينيات. وتعدّ، حتى الآن، أبرز قضية حسبة هي تلك التي رفعت ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد (*)، أستاذ الدراسات الإسلامية واللغة العربية في جامعة القاهرة. وكان أبو زيد قد أصبح مركز الاهتمام الوطني بعدما جرى رفض طلبه للترقية إلى درجة الأستاذية الكاملة. وكانت أسباب رفض ترقيته أن أبحاثه العلمية لم تكن كافية؛ ولكن اتهمه تقرير لأستاذ راجع أبحاثه بأن عمله يحتوي على تجديف (طعن) في الإسلام. وخلال المناقشات التي تلت ذلك بين لجان الجامعة، رفع محامون إسلامويون قضية ضد أبي زيد في محكمة الجيزة الابتدائية، متهمين إياه بالردة وطالبوا المحكمة أن تبطل زواج أبي زيد من زوجته. (28) وكانت القضية غير عادية؛ لأن المحامين لم يكن لديهم مصلحة مباشرة في القضية، ومن ثم كانوا يفتقرون إلى الصفة القانونية المطلوبة عادة لرفع القضية. (29) وجادل المدعون بأنهم ينبغي أن يُنظر إلى صفتهم القانونية على أساس مبدأ الحسبة؛ وهو مبدأ فقهي إسلامي يسمح للأفراد برفع قضايا في بعض الظروف المتعلقة ب «حقوق الله» لأجل حماية الصالح العام، دون أن تكون لهم مصلحة مباشرة في القضية المطروحة. (30) ولكن المحكمة الابتدائية رفضت الدعوى. وعندما استأنف المدعون حققوا انتصاراً صاعقاً ضد أبي زيد. وكان الحكم مفاجئاً أيضاً لعواقبه العملية، أي كسابقة قانونية لقضايا حسبة محتملة مستقبلاً التي يرغب المحامون في رفعها تحت المبرر الإجرائي نفسه. وخلصت محكمة استئناف القاهرة في حكمها: «... إن ما كتبه أبو زيد لا يخالف الإسلام فحسب، ولكنه يخالف أيضاً دستور جمهورية مصر العربية؛ فالمادة الثانية تنص على أن الإسلام هو دين الدولة... ولذلك، فإن الهجوم على الإسلام هو هجوم ضد الدولة التي تأسست عليها. كما إنه يخالف أيضاً المادة ال9 من الدستور التي تنص على أن الأسرة هي أساس المجتمع، وأساسها هو الدين...» وزادت المحكمة أيضاً بنصح المصريين برفع المزيد من قضايا الحسبة، ووصفت ذلك بأنه واجب على جميع المسلمين. فالحسبة، وفقاً للمحكمة وعلماء الدين الإسلامي، هي في سبيل الله، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبناء عليه، تُعدُّ ممارستها ضرورية على جميع المسلمين، ويجب عليهم ممارستها عبر رفع القضايا في المحاكم أو الإدلاء بالشهادة. (31) وجذبت القضية اهتمام وسائل الإعلام الدولية بسرعة، ثم تحولت إلى محكمة النقض؛ وهي أعلى محكمة استئناف بمصر في التسلسل الهرمي للمحاكم المدنية. وفي مفاجأة صاعقة ثانية، صادقت محكمة النقض على حكم محكمة استئناف القاهرة في العام التالي، وأكدت ردة أبي زيد عن الإسلام. (32) لقد كان هذا الحكم هو الأول من نوعه في محكمة مصرية، وشكل انتصاراً هائلاً للمتشددين الإسلامويين. وبتشجيع من قضية أبي زيد، بدأ المحامون الإسلامويون برفع المزيد من قضايا الحسبة؛ فقد رُفعت، خلال الفترة 1995-1998، 134 قضية ضد مجموعة متنوعة من الشخصيات العامة؛ مثل الروائي الفائز بجائزة نوبل نجيب محفوظ، والممثلة البارزة يسرا، والمخرج السينمائي المشهور يوسف شاهين (بيات 2007 ، 172؛ برناد -ماغيرون 1999). وبالرغم من أن دعاوى الحسبة أججت ذعراً كبيراً بين العلمانيين خلال الفترة 1993-1998، فإنه لم يكن لأية قضية تأثير عميق كقضية أبي زيد. ونظراً للاضطراب الاجتماعي والسياسي الكبير الذي سببته دعاوى الحسبة، تدخلت الحكومة في عام 1998 وأصدرت قانوناً يمنع الأفراد من رفع قضايا الحسبة مباشرة في المحكمة؛ فمن لحظة صدور ذلك القانون فصاعداً، لا يمكن للمواطنين رفع قضايا حسبة إلا عبر مكتب النائب العام، الذي يقرر تحويل القضية إلى المحكمة أو رفضها. ومن خلال هذا الاحتكار، نجحت الحكومة في تجنب ظهور مزيد من الحالات المثيرة للجدل؛ لكنها وضعت أيضاً عبء المراقبة الأخلاقية على الدولة نفسها. والقضية الأخيرة التي سنعرضها هنا تتعلق بمجلس الدولة الذي يجلس على قمة هرم النظام القضائي الإداري. وتتمثّل أحد الأدوار الرئيسة لمجلس الدولة في الفصل في تداخل الاختصاصات داخل الجهاز الإداري للفرع التنفيذي للحكومة؛ ففي يوليو 1993، أرسل شيخ الأزهر د. جاد الحق علي جاد الحق طلباً إلى مجلس الدولة لتحديد المؤسسة الحكومية التي تملك حق الرقابة على المنتجات السمعية والسمعية - البصرية من حيث مشروعيتها الإسلامية. وبالرغم من أن الأزهر قد عمل، في السابق، كمستشار لوزارة الثقافة؛ فإن هذا الطلب يفيد بأنه يسعى، الآن بقوة، إلى انتزاع حق الرقابة من وزارة الثقافة واحتكاره لنفسه. في العام التالي، توصل مجلس الدولة إلى قرار في صالح طلب الأزهر للاختصاص، معلناً: «... انتهت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة إلى أن الأزهر الشريف هو وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص بالمصنفات السمعية والسمعية - البصرية». وصُعق المثقفون المصريون لهذا الحكم؛ لأن مجلس الدولة لديه تاريخ طويل في دعم القيم الليبرالية وتعزيز المبادئ العلمانية. (33) ومن المثير للاهتمام أن المستشار طارق البشري، وهو قاض محترم ومفكر عتيد، هو الذي كتب الحكم بصفته رئيساً للجمعية العامة لمجلس التشريع في مجلس الدولة. لقد كان البشري شخصية ثقافية مرموقة، ومر بتجربة تحول فكري من اليسار إلى الإسلاموية المعتدلة. وتماماً مثل قضية أبي زيد، أكد هذا القرار المذهل للعلمانيين بأن التيار الإسلاموي اخترق، بالفعل، أعلى مستويات القضاء المصري. تقييم أثر التقاضي الإسلاموي وعندما نتحدث عن التأثير الذي أحدثه التيار الإسلاموي في القانون الوضعي المصري، أقرر هنا أنه بالرغم من العواقب بعيدة المدى لبعض الحالات التي نوقشت هنا؛ فإنه من الأفضل أن نفهم تلك العواقب على أنها «الاستثناء وليس القاعدة». فإذا فحصنا التاريخ المصري، منذ أوائل القرن ال19 وحتى الوقت الحاضر، فمن الصعب ألا نستنتج أن الاتجاه العام في القانون المصري كان «علمانياً» بقوة في معظم النواحي؛ فالتعليم القانوني هو تقريباً علماني بالكامل، حيث لا يدرس الطلاب سوى مقرر واحد فقط في الشريعة الإسلامية، بل وحتى كلية الحقوق بجامعة الأزهر تعلم في المقام الأول القانون المدني وليس الشريعة الإسلامية. وتقوم المؤسسات القانونية على نموذج القانون المدني، سواء من حيث الهيكل المؤسسي والنظام الإجرائي. وأخيراً، فإن قانون الأحوال الشخصية هو القانون الوحيد الذي يقوم على أساس الشريعة؛ ولكن حتى هنا الشريعة مقننة ومدونة بالكامل عبر مجموعة مختلفة تماماً من المبادئ المُنظمة للفقه الإسلامي التقليدي. (34) وعندما نتحول إلى مهنة المحاماة، فقد شاهدنا في هذا التحليل أن مجموعة متنوعة من الضغوط تلاقت لتضعف منزلة النخبة الليبرالية التي هيمنت على مهنة المحاماة والقضاء من القرن ال19 حتى منتصف القرن ال20. وكان انتصار المحامين الإسلامويين المذهل عام 1992 في انتخابات نقابة المحامين بمثابة مؤشر مدهش على التحول الإيديولوجي الذي وقع داخل جزء كبير من هذه المهنة؛ ولكن ينبغي أن نلاحظ أن فوز تلك الأغلبية الإسلاموية لم يتكرر في انتخابات النقابة اللاحقة. لقد كان انتصار المحامين الإسلامويين في عام 1992 يرجع، بشكل رئيس، إلى انخفاض الإقبال على التصويت مقابل القدرة التنظيمية الهائلة للتيار الإسلاموي على الحشد؛ وليس لوجود أغلبية إسلاموية حقيقية في مهنة المحاماة. ** ** ** هوامش المترجم: (*): يوجد في الملاحق 1-10 وثائق نادرة عن قضية د. نصر حامد أبو زيد رحمه الله، وتشمل تلك الوثائق الحوار الصحفي الأول والأخير (أي الوحيد) مع قاضي الاستئناف المستشار فاروق عبد العليم مرسي الذي حكم بردة نصر حامد أبو زيد مع الصورة الوحيدة المتوفرة للمستشار مرسي بعد القضية مباشرة؛ ونص دعوى الحسبة المرفوعة من الإسلامويين المحتسبين؛ ومذكرة دفاع نصر حامد أبو زيد بنقض دعاوى التكفير والردة؛ وكذلك حكم المحكمة الابتدائية التي رفضت مبدأ الحسبة وردت الدعوى؛ وحكم الاستئناف الذي نقض الحكم الابتدائي وحكم بردة نصر أبو زيد وأيد مبدأ الحسبة؛ وأيضاً حكم النقض الذي أيد حكم الاستئناف بردة نصر حامد أبو زيد وشرعن فكرة الحسبة في القانون المصري الوضعي بصورة نهائية غير قابلة للنقض، وكذلك حوارات نادرة مع نصر حامد أبو زيد ومع خصمه عبد الصبور شاهين الذي كان أول من اتهم أبو زيد بالكفر والردة؛ وحوار آخر مهم مع عبد الصبور شاهين بعد بضع سنوات تراجع فيه عن تكفير أبوزيد. وقد بذلنا الكثير من الجهد (الوقت والمال) من أجل الحصول على هذه الوثائق لكي نقدم مرجعاً موثقاً لتفاصيل تلك القضية التاريخية الهامة وغير المسبوقة في تاريخ العرب المعاصر. ..............................................يتبع ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء