تقديم المترجم: نواصل مع ترجمتنا لدراسة نادرة جدا كتبها الباحث الألمعي د. تامر مصطفى، أستاذ مشارك في الدراسات الدولية في جامعة سايمون فريزر، فانكوفر، كندا. وهو مؤلف كتاب: «الصراع على السلطة الدستورية: القانون والسياسة والتنمية الاقتصادية في مصر»، نيويورك، قسم النشر بجامعة كامبريدج، 340 صفحة، عام 2007. ونشرت هذه الدراسة في ديسمبر 2010. وستشكل هذه الدراسة أحد فصول كتاب تحت الترجمة بعنوان مؤقت: «إمكانية تطبيق حد الردة عبر القانون الوضعي في دولة إسلامية» والذي سيصدر في عام 2017 بحول الله. تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن جميع القضايا المستندة إلى المادة الثانية عبارة عن تحديات إسلاموية في حد ذاتها؛ بل إن الغالبية العظمى من القضايا حول المادة الثانية من الدستور تهدف، على الأرجح، إلى تعزيز القول بعدم دستورية التعديل. على سبيل المثال، استخدم المتقاضون الشريعة لتعزيز المطالبات في قضايا حقوق الملكية. (16) وبالمثل، كانت عشرات القضايا تتعلق بقضايا الأحوال الشخصية؛ وتحديداً الطلاق (17) والنفقة (18) وحضانة الأطفال (19). واستشهدت بالمادة الثانية المعدلة لتفنيد القانون الوضعي للأسرة، على الرغم من أن أحكام الأحوال الشخصية في القانون المدني المصري كانت تستند عموماً إلى تفسيرات مقبولة للشريعة. (20) وعلى الرغم من أن بعض المرتكزات الدستورية في هذه القضايا قد كتبها متقاضون يعتقدون بصدق أن قوانين الأحوال الشخصية الوضعية تخالف الشريعة، وتفرض أحكاما قانونية تتعارض مع فهمهم لأحكام الدين؛ فإنه قد يكون من الأسلم أن نفترض أن العديد من هذه القضايا تذرعت بالشريعة - ببساطة - لتعزيز حججها بطرق مؤثرة. ورفعت قضايا أخرى، على ما يبدو، من أجل خلق ضجة عامة، حتى عندما كان هناك فرصة ضئيلة لصدور أحكام مؤيدة. وفي قضية معينة، على سبيل المثال، تحدى الإسلامويون دستورية سلسلة من القوانين التي تحكم الأمور المتعلقة بالخمور والقمار. لقد زعم المدعي أن هذه القوانين تنتهك المادة الثانية من الدستور وكذلك المادة ال12 التي تنص على: «... يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية والقيم الخلقية والوطنية، والتراث التاريخي للشعب، والحقائق العلمية، والآداب العامة، وذلك في حدود القانون. وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها». ا. ه. ولم يطالب المدعي فقط بإلغاء تلك القوانين، وبأن تصادر الدولة الخمور وأدوات القمار؛ ولكنه طالب أيضاً بأن تبني الدولة المساجد في مكان الملاهي الليلية التي توجد فيها خمور وقمار في جميع أنحاء الدولة كتعويض معنوي للشعب. واتفق رئيس المحكمة المدنية مع المطالبة الدستورية لمقدم الطلب، وقام بتحويل القضية إلى المحكمة الدستورية العليا، حيث جرى رفض القضية بشكل سليم؛ لأن المدعي لم تكن لديه مصلحة مباشرة في القضية (قضية 3، السنة القضائية ال 12). ومن المرجح أن المدعين رفعوا هذه القضية وهم يدركون تماماً أنه سيتم رفضها من قبل المحكمة، ولكن القضية نفسها أعطت الإسلامويين الفرصة لتسليط الضوء على ما زعموا بأنه تناقض فاضح بين خطابية الدولة الإسلامية من ناحية وممارساتها العلمانية من ناحية أخرى. تعاطف بعض قضاة المحاكم الابتدائية مع التيار الإسلاموي ولكن ربما كانت القضايا الأكثر إثارة للاهتمام حول التعامل مع المادة الثانية من الدستور ليست تلك التي بدأها متقاضون إسلامويون أو غيرهم من أفراد الشعب، وإنما تلك القضايا التي رفعها قضاة المحاكم الابتدائية مستخدمين سلطتهم لإحالة القوانين المشكوك بدستوريتها إلى المحكمة الدستورية العليا لمراجعتها والبت فيها بمبادراتهم الخاصة. فعلى سبيل المثال، قرر قاضي محكمة جنايات القاهرة، في قضية أمام محكمة مدنية تتعلق بشرب الخمر في مكان عام في عام 1982، وقف إجراءات التقاضي وتقديم التماس إلى المحكمة الدستورية العليا لمراجعة دستورية القانون 63/1976 بشأن تعاطي الخمور (القضية 61، السنة القضائية ال 4). لقد كان رأي القاضي هو أن القانون 63/1976 لا يتفق مع الشريعة الإسلامية لأنه يحكم بالسجن بدلا من الجلد كعقاب لشرب الخمر. (21) وفي قضية مماثلة، علق قاضي المحكمة الابتدائية المحاكمة بشأن الدعارة وطلب من المحكمة الدستورية العليا تقييم مدى دستورية القانون 10/1961 (القضية 89، السنة القضائية ال 12). لقد كان رأي القاضي هو أن هذا القانون، الذي يعاقب بالسجن على ممارسة البغاء، لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية. ومن ثم، لا يتوافق مع المادة الثانية من الدستور. وجادل القاضي بأن عقوبة الزنا في الشريعة الإسلامية هي الرجم إذا كان الزاني متزوجا، والجلد إذا كان الزاني غير متزوجا؛ في حين أن القانون 10/1961 لا ينص إلا على عقوبة السجن. (22) ومرة أخرى، فإنَّ الجانب المفاجئ والمستغرب للأمثلة المذكورة هو أن هذه التحديات الدستورية بدأها قضاة محاكم ابتدائية بأنفسهم. وتكشف العشرات من التحديات المماثلة لمجموعة متنوعة من القوانين توترات واسعة داخل المؤسسة القانونية المصرية. وبدون شك، فقد كان بعض قضاة المحاكم الابتدائية متعاطفا مع القضايا الإسلاموية؛ ولكن كان التقاضي الإسلاموي لا يحرز تقدما يذكر عندما تصل المسألة إلى المحكمة الدستورية العليا. صاعقة مدهشة: فوز التيار الإسلاموي في انتخابات نقابة المحامين عام 1992 ووصلت هذه التوترات في المجتمع القانوني المصري أيضاً إلى نقطة صدام واضحة في انتخابات نقابة المحامين عام 1992. لقد فاز المرشحون الإسلامويون بالأغلبية، وسيطروا على مجالس الإدارة في نقابة الأطباء (1986) ونقابة المهندسين (1987) ونقابة الصيادلة (1990)؛ ولكن عندما فاز المرشحون الإسلامويون ب 18 من 24 مقعدا في انتخابات نقابة المحامين في سبتمبر 1992 أصيبت الأمة بصاعقة من الذهول والدهشة، لأن نقابة المحامين، ربما أكثر من أية منظمة أخرى في البلاد، كان يهيمن عليها الليبراليون على مدى عقود. ولكن شكلت انتخابات عام 1992 تغييرا جذريا كان يعتقد سابقا بأنه مستحيل؛ فقد أدت التغييرات من داخل مهنة المحاماة وخارجها (كوفرة إنتاج المحامين، وركود النشاط الاقتصادي الخاص لعقود طويلة، وتراجع برستيج (هيبة) المهنة، وتغير التركيبة الاجتماعية - الاقتصادية لممارسيها) بجانب بزوغ الحركة الإسلاموية التي اجتاحت البلاد إلى إنتاج أول مجلس إدارة إسلاموي لنقابة المحامين. وتأثرت نتائج انتخابات نقابة المحامين - جزئيا - بانخفاض إقبال الناخبين وتفككهم نسبيا، (24) مقابل حماس وحافز وحسن تنظيم الإسلامويين الذين حشدوا صفوفهم بمهارة وحنكة؛ وهو ما أدَّى إلى فوزهم. ولذلك، لا ينبغي (25) النظر لنصر عام 1992 باعتباره مقياسا مباشرا لقوة التيار الإسلاموي في مهنة المحاماة المصرية؛ ولكنه يعد علامة بارزة على كيفية تغير طبيعة مهنة المحاماة بمصر بصورة مذهلة خلال عقود قليلة. وبحلول أوائل التسعينيات، أصبح من الصعب على نحو متزايد للمحكمة الدستورية العليا رفض التحديات الإسلاموية على أساس عدم قانونية تفعيل العمل بأثر رجعي في قضية الربا الأزهرية؛ فقد أصبحت القوانين الجديدة، التي صدرت بعد هذا التعديل الدستوري عام 1980، مفتوحة للمراجعة القضائية على أساس منطق المحكمة الدستورية العليا الذي أصدرته بنفسها. وبدأت قضايا إسلاموية جديدة حول تعارض مواد القانون المدني مع المادة الثانية من الدستور تُرفع بوتيرة متزايدة. محاولة نقض قرار وزير التربية والتعليم بمنع الطالبات من ارتداء النقاب في المدارس العامة وكانت القضية الأكثر إثارة للاهتمام تسعى إلى نقض قرار وزير التربية والتعليم، الذي منع الطالبات من ارتداء النقاب في المدارس العامة. (26) وردا على هذه القرار، رفع والد طالبتين قضية وصلت إلى المحكمة الدستورية العليا. لقد جادل الأب أن الزي المدرسي يخالف المادتين ال 2 وال 46 من الدستور المصري، وحيث تشير الأولى إلى أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، وتضمن المادة ال 46 حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية. وحكمت المحكمة الدستورية العليا بأن القرار الوزاري لم يتدخل في أي فريضة إسلامية أساسية (القضية 8، السنة القضائية ال 17). لا توجد إشارة في النصوص القرآنية أو في السنة الشريفة تحدد قانونا للملابس النسائية يفرض نقاباً يغطيها تماماً، حيث لا يُظهر إلا عينيها عبر فتحتين لتجويف العينين، ويتطلب تغطية وجهها ويديها (ووفقا لبعضهم القدمين). فهذا التفسير ليس مقبولا، وليس معلوما من الدين بالضرورة. (27) وكتب المستشار عوض المر، رئيس المحكمة الدستورية العليا، مؤكدا: «سيكون من غير العملي أن نفرض لباسا يظهر المرأة كشبح... فالقرآن وسنة النبي لا يصوران المرأة كقامة مخبأة تحت ستار من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين ولا يُظهر أي جزء من جسدها إلا العينين». (المر 1997). ..............................................يتبع ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء