كان هذا اليوم طويلا جدا بأحداثه، حيث وصلنا إلى الجبال التي نقصدها وهي جبال: «الخانق» وجبال «القهر» في الساعة الواحدة ظهرا، كان الجو حارا قليلا، فرحنا بالوصول بعد رحلة أكثر من 100 كيلو من محافظة تثليث منطقة وادي الدواسر. توضأنا للصلاة من مياه الخزان الذي يحويه الكرافان ثم تابعنا الرحلة لكن أخذنا وقتا ونحن نسير قبالة الجبال بحثا عن المكان بتحديده الإحداثي الذي ذكره لبيد بن ربيعة في معلقته: «عفت الديار محلها فمقامها» نحن نريد طلخام أو طلحام والرخام لكن كان شغل الدكتور عيد اليحيى الشاغل هو الوصول إلى بعض النقوش المكتوبة على جبال القهر. أخذنا نتحرك بالسيارات الثلاث قبالة الجبال وارتفاعها في حدود 40 - 90 متراً أو أكثر بقليل كان شكل الجبال متعرجة من قممها وهي من صخور متنوعة جرانيتية ورسوبية. قال لي الدكتور عيد اليحيى الذي أرافقه في السيارة الكارفان التي يقودها هو بمهارة: إن هذه المنطقة كانت بحرا من ملايين السنين وقد طمرت وبقيت هذه الحجارة الصَّغيرة وهذه الجبال كبقايا بحر جاف. الحجارة معظمها من السليكون. وصلنا إلى القطع الجبلية التي تحتوي على النقوش. وجدنا نقوشا للوعل والأبقار والنعام. وبعض الحروف والعبارات المكتوبة بلغة لا يفهمها أحدنا. يبدو أنها لغة لسكان أو عابرين عبروا هذا المكان جاءوا من اليمن. وقد كتبت منذ سبعة آلاف سنة كما يقول الدكتور عيد اليحيى. قمنا بإيقاف السيارات جانبا، ووجدنا بعض الأشخاص هناك جالسين في كهف مفتوح، نادى بعضهم على الدكتور عيد اليحيى ليشرب قدرا من القهوة العربية والشاي. وانشغلنا أنا والمصور بتصوير الجبال والنقوش. بعد أن مرق د. عيد اليحيى إلى النقوش وشاهد بعض القطع الجبلية المتناثرة إلى أعلى وإلى اسفل. قمت بتصوير هذه القطع، بكاميرتي الصَّغيرة، فيما قام المصور طارق المطلق ويلقب ب : «ملك الصحراء» لقيامه بتصوير مشاهد رملية بديعة ولوحات رملية وصحراوية من أبدع ما يكون. قام بتصوير الجبال والنقوش واستغرق ذلك منه وقتا طويلا. حلت الساعة الثالثة والنصف عصرا وصلينا صلاة العصر ، وبدأ الأصدقاء في إعداد الطعام، وكان عبارة عن لحم بالأرز، وقد وفر الدكتور عيد اليحيى والأصدقاء كل الأدوات التي تحتاجها مثل هذه الرحلة. كانت معلبات الأغذية، والعصائر، وعلب المياه المعدنية، والسكر، والدقيق، والأرز، والملح، وعلب الصلصة، وبعض الخضروات كالكوسة، والقرع، والبطاطس وأيضاً البصل والثوم، بالإضافة إلى المناديل وعلبة الإسعافات الأولية، وبعض الأدوية الخفيفة. كما أن السيارة الكرافان كانت مجهزة بشكل جيد بمختلف وسائل الاتصال والمحولات الكهربائية والبطاريات الكهربائية، وخزانات المياه الصَّغيرة. وأيضاً أدوات النوم، والأغطية والمفروشات. كما كانت السيارات الثلاث متصلة ببعضها البعض بجهاز: «كينوود» لسهولة التواصل عند الحركة والتنقل من مكان إلى مكان آخر، خاصة أن هذا التنقل يتم عبر الطرق السريعة المسفلتة وأيضاً عبر المناطق الصحراوية والرعوية والجبلية التي يسكنها البدو وغير البدو. المنطقة الجنوبية مفعمة بالجبال المتنوعة، وهذا يجعل الرحلة تتم وفق خريطة محددة مترابطة. في الخامسة بدأنا في تناول طعام الغداء، وكان الجميع قد انشغلوا بالضيافة وقد راق لهم المكان.. فيما انشغلت بتصوير بعض القطعان من الإبل وكيفية حركتهم وكيف يقوم الرعاة برعي الإبل. وكانت أصوات الحنين ومنادة النوق للحور الصغار. وبين وقت وآخر يقوم الأصدقاء بمتابعة الإبل. وقد أحضر لنا الصديق: حمد حصانا للركوب ولكن قمنا بتصويره، وملامسته لأنه كان هائجا قليلا ولم يستطع أحدنا ركوبه. وقام البعض بتصوير الإبل، فيما انشغل المصور بتصوير بعض النقوش حول وأعلى الجبال. كان من بين النقوش نقوش للصليب يبدو أن اليهود القدامى قاموا برسمه في وقت مملكة نجران. كما وجدنا رسما لشمعدان يهودي مرسوم على قطع من صخور الجبل بشكل متكرر. ومع هذه النقوش المهمة تاريخيا، التي لم يفسرها أحد بعد من العلماء والباحثين. لا توجد عناية كافية أو اهتمام سياحي أو علمي بهذه الجبال وما عليها من نقوش وبالمنطقة الجبلية ومنطقة الوادي بشكل عام. وفيما خلدنا قليلا للراحة، وصل ثلاثة من الشباب من الدواسر، كان الدكتور عيد اليحيى الذي تعود جذوره إلى وادي الدواسر فهو كما يقول: من الشماسين، والودعان الذين هاجروا من 250 سنة من وادي الدواسر إلى بريدة بالقصيم. رحبنا بالضيوف الثلاثة الذين جلسوا مدة ساعة، ثم انصرفوا ولحقنا بهم في الثامنة مساء، حيث وجدنا بساطا من السجاجيد الممتدة ومجموعة كبيرة من الرجال والشباب في انتظارنا. وكعادة العربان يجب أن نسلم على الجميع الذين وقفوا في أماكنهم للتسليم علينا. والمجلس يجب ان يكون مربعاً أو مستطيلا، حيث الجلوس على حواف المربع، فيما منتصف الجلسة يكون فارغا إلا من المشروبات التي تقدم عادة في مثل هذه الجلسات: القهوة العربية، والتمر، والشاي، وتكون الكاسات والأكواب معدة ونظيفة في المنتصف في أطباق بلاستيكية أو مصنوعة من الألمونيوم. وكانت بعض السيارات الداتسون خاصة واقفة مع كرفان كبير مجهز بكل احتياجات الرحلة، ويبدو أن هؤلاء الرجال والشباب من منطقة وادي الدواسر لكنهم استوطنوا لمدة محدودة هنا من أجل رعي إبلهم.. حيث المراعي تكون أكثر اخضرارا في فصل الربيع. بعد ساعة توجهنا لمجلس آخر في الصحراء أيضاً.. وتكرر المشهد نفسه، حيث قمنا بالسلام على الحضور وكانوا أكثر عددا، ثم دخلنا الكرافان وبعد أن غسلنا أيادينا في تواليت نظيف ومجهز كأنه في منزل أو فيلا دخلنا لصالة الطعام. كانت هناك ثلاث مآدب معدة، على هيئة طاولات منخفضة الارتفاع مستديرة، عليها خروف مشوي محاط بالأرز في صينية كبيرة. تحلقنا جميعا نحن الضيوف وأصحاب الضيافة حول المآدب الثلاث. كنا قد تناولنا في الغداء لحما وأرزا.. وشربنا بعض حليب النوق. وكعادة العربان أيضاً كانت هذه الوجبة الدسمة، لكنني لم استطع إلا أن أتناول قدرا صغيرا من الأرز واللحم رغم لذته لأن وجبة الغداء كانت دسمة. بعد أن انتهينا من الوجبة الليلية الدسمة قمنا بغسل أيادينا مرة أخرى والذهاب خارجا حيث المجلس العربي. تواصلت الحكايات حول الرحلة والقصد منها، كما حذرنا أحد البدو الهرمين من المكان، وأن هناك لصوصا وأيضاً هناك مجرمون قد يتعرضون لنا، وسبق لهم التعرض من قبل للغرباء وأحيانا يذبحونهم للاستيلاء على ما معهم من نقود وأغراض. وطلب من الدكتور عيد اليحيى أن يستعين بشاب أو أكثر من شباب المنطقة ليكون دليلا في الرحلة. انصرف البعض بعد عدة حكايات تاريخية حول النقوش، والجبال، وشعر لبيد بن ربيعة. ثم عدنا تارة أخرى للمجلس الأول القريب. كان الشيخ مسفر الدعل الدوسري والد عدد من الشبان في وادي الدواسر قد حكى لنا في المجلس أن وادي «طلحام» وجبل طلحام يبعد نحو 20 كيلو مترا، وعلينا أن نصل إليه من مكان يسمى:» يدمة». ففضلنا المبيت قريبا من المكان الذي فيه المجلس. لنتجه صباح الجمعة إلى وادي:» طلحام» وجبل طلحام الذي ذكره لبيد في معلقته. قلت للدكتور عيد اليحيى:» ربما يكون الاسم مركبا من: «طلح وحام» أو «طلح ويام» خاصة أن المكان مشهور بأشجار الطلح وربما تكون الثقافة اليهودية أو المسيحية المنتشرة في منطقة اليمن ونجران قديما قد أثرت على تشكيل الاسم. تحركت سياراتنا مسافة كيلو متر من المجلس واخترنا ركنا مرتفعا قليلا بالقرب من بعض التلال لنبيت فيه ليلة الجمعة وننتظر شروق شمس هذا اليوم، لنتحرك بعد الإفطار وتناول الشاي والقهوة إلى وادي طلحام.