جورجوس ستاتي، صياد سمك إيطالي. إنه قصير وأسمر، مظهره لا يميزه عن غيره، تراه العين ثم تتجاوزه بسرعة، رجل عادي. لكن قدراته فوق العادية. هذا الرجل اشتهر بشيءٍ عجيب: في عام 1913م غاص ليستعيد مرساة سفينة حربية في الأعماق، وبنَفَسٍ واحد فقط استطاع أن ينزل 70 متراً ويخرج من الماء، أي ما يعادل مبنى من 21 طابقاً! عندما طلب الناس من ستاتي أن يحبس نَفَسَه في اليابسة لم يستطع أكثر من 40 ثانية! يا للفسيولوجية البشرية المحيرة! طبعاً هذه القدرات يمكن أن تأتي مع ضريبة، فالضغط أسفل الماء قوي ويزداد قوة مع العمق، وبسبب كثرة غوص ستاتي لأعماقٍ سحيقة فإنّ سَمعه تضرّر، فكانت إحدى طبلتيه مختفية والأخرى مثقوبة. كان ستاتي يستغرب أسئلة الأطباء وطلباتهم أن يحبس نفسه في اليابسة، وشرح لهم أنه بمجرد أن يغوص فإنّ الوضع يختلف تماماً. أثار كتاب «الحدود القصوى» للكاتب بيتر وونغ أسئلة شائقة، وإنّ مما يبعث العجب الفرق بين آراء الأطباء والواقع. كتب بعض علماء الفسيولوجيا نشرة طبية عن الغوص، قالوا فيها إن أقصى عمق يغوصه الإنسان 34 متراً، وبعدها يَسحق الضغط الرئتين ويفجر دماءها. أما الوقت فقالوا إن 3 دقائق أطول ما يقدر الغواص أن يحبس نَفَسَه، ولم يكن هذا عشوائياً بل مستنداً على كمية الأكسجين في الرئة بعد الشهيق الأقصى، ووازنوا هذا مع استهلاك الأكسجين الطبيعي في الجسم. لكن حتى العلماء الذين وضعوا هذه الحدود عرفوا عن قصص مثل ستاتي والذين نَسَفت قدراتهم تقديرات العلماء، ولما أتت الثمانينات الميلادية استطاع الإنسان أن يغوص لعمق 100 متر أي مثل مبنى من 30 طابقاً، وجعل العلماء يحُكّون رؤوسهم بحيرة ولا يعرفون تفسيراً لهذا: إنه يتعارض مع معرفتهم بطبيعة الجسم البشري. الجسم لا يفترض أن يقدر أن ينزل لمثل هذه الأعماق. كيف؟ السر هو في آلية وضعها الله في الإنسان اسمها ردة فعل الغوص. عندما تغوص فإنّ أطراف الأعصاب في وجهك تدرك أنك تحت الماء وترسل إشارات للمخ ليبدأ سلسلة عمليات تحفظ حياتك، منها أنّ نبضات قلبك تُبطئ وتنقبض الأوعية الدموية في أماكن معيّنة، وهاتان نتيجتهما تقليل عمل الدورة الدموية في إيصال الدم للأعضاء والأنسجة الثانوية، وتخفيف العبء على القلب والمخ، وانقباض الأوعية الدموية الكبيرة يزيد ضغط الدم بشدة، حتى إن العلماء سجلوا ارتفاعاً في الضغط لبعض الغواصين أكثر من ضعف النسبة التي تدعو لتدخل جراحي عاجل! هذه العمليات تضخ كمية دم ضخمة فتتشبع أنسجته، وهذا يتيح اعتصار الأنسجة الهوائية أكثر مما قدّره لها العلماء وفي نفس الوقت هذا يحمي الأنسجة. غير ذلك فهناك آلية أخرى تعتمد على الطحال، ومن مهامه أن يكون مَخزناً لخلايا الدم الحمراء وقت الحاجة، فإذا نقص الأكسجين بسبب حبس النفَس، انقبض الطحال ونثر محتواه من تلك الخلايا فتزيد نسبة الأكسجين. هذه العجائب التي تحصل داخلك هي السبب في كون البشر قادرين على أشياء مدهشة، ولم يكتفوا بالغوص إلى 100 متر، فسبّاح نمساوي وصل إلى عُمق 214 متراً، أي كمبنىً من 65 طابقاً، وسبّاح فرنسي استطاع حبس نَفَسه 11 دقيقة و35 ثانية! هذه الأرقام المدهشة تأتي بضريبة، فالجسم ربما يتضرر، لكن في النهاية نظل نستغرب من قدرة الجسم البشري على التكيُّف مع ظروف شديدة القسوة، فسبحان من أعطى البشر هذه الأجسام المتكيفة العجيبة.