تحدث كثيرٌ من النقاد عن مشكلات فرعية تعاني منها الرواية السعودية، فأشاروا إلى (الموهبة)، و(التجربة الفكرية)، و(التجربة الفنية)، و(الرقيب الخارجي) بصفتها عواملَ رئيسة مسؤولة عن ضعف جزء كبير من المدوّنة الروائية في السعودية.. وفي دول الخليج بوجهٍ عام، وعلى الرغم من أنّ كل ما سبق صحيح ولا غبار عليه، فإنني أميل إلى أنّ ثمّة مشكلات أكبر، لها علاقة بالسياق الثقافي (بدلالته الواسعة)، يمكن أن يساعدنا الاقترابُ منها على رفع سقف الأسئلة حول منجزنا الروائي، وسأشير -في هذه المقالة- إلى ثلاث مشكلات رئيسة: الأولى: إنّ الشكلَ الروائيَّ ليس وليد البيئة العربية (كما يرى كثير من الباحثين)، وهذا لا ينفي إيماني بارتباط الرواية العربية بالتمدّن الذي حظيت به -أوّل الأمر- مصرُ والشامّ، فدشّن فيهما صراعاً -كان حيياً أوّل الأمر- بين القديم والجديد، لكنني أرى أنّ ولادة الشكل الروائي في المنطقة العربية لم تكن مرتبطة بتغيّر اجتماعي واعٍ (جوهري - شامل)، يمسّ منظومة القيم، ويغير في موقع الإنسان منها، وإنما كان مرتبطاً بعاملين (كما يشير بهاء الدين محمد مزيد): الأول: المسرودات العربية التراثية من مقامات وتراجم وكتب رحلات وسير شعبية، والثاني: المثاقفة المتنامية والتفاعل الذي حصل بين العرب وأوروبا؛ لذلك تجلت الرواية عند أغلب روائيي مرحلة الريادة مكرِّسة الروحَ الجمعية، ومفتقرة إلى الأسئلة والمعرفة، وظلت في كثير من الأحيان مخلصة لهذه الروح، متأثِّرة بمشكلات السياق الثقافي العام، وعاجزة -حتى في أحسن حالاتها- عن النفاذ إلى أعماق الشكل الروائي. وما يصدق على مصر والشامّ يصدق على دول الخليج، فولادة الشكل الروائي فيها لم تكن مرتبطة بتغير اجتماعي يمكن أنْ يُشار إليه، وإن ارتبطت -لأسباب اقتصادية- بالانتقال من فضاء الصحراء أو القرية إلى فضاء المدينة، وإذا كانت الرواية العربية قد تأثرت -في مصر- بالرافد الثقافي والجمالي الغربي والأوروبي الشرقي فإن الرواية الخليجية قد تأثرت في بداياتها بالرواية المصرية، أي: برافد من درجة (أو يدٍ) ثانية، ويكفي أن أشير في هذا السياق إلى تأثّر عبدالقدوس الأنصاري (رائد الرواية السعودية وفق الرأي النقدي السائد) بما أفرزته النهضة العربية من قضايا في بلاد مصر، وعلى رأسها قضية الهُويّة وموقفها من الصلات الحضارية، وذلك بحكم علاقته الوثيقة بمصر وأدبائها؛ إذ كان ينشر مقالاته في صحفٍ مصرية، وله رحلات كثيرة في طول البلاد العربية وعرضها (كما تشير بعض المراجع)، ولهذا التواصل جوانب ثقافية مهمة، من أهمّها أن أوّل مقالة للأنصاري نُشِرت في مجلة «الشرق الأدنى» المصرية عام 1346ه أي: قبل صدور روايته «التوأمان» بثلاث سنوات تقريباً، ولقد استمرَّ بعد ذلك في نشر مقالاته في عدد من الصحف المصرية الكبيرة ك«الأهرام» و«المقطم»، و«المعرفة المصرية»، وفي مجلات مهمة ك«الرسالة» مثلاً، وتواصله مع هذه القنوات الثقافية المهمة بالكتابة يعني بالضرورة تواصله معها بالقراءة، وقراءته إياها ستفضي به حتماً إلى الاطلاع على نتاج المثقفين من روائيين ونقاد، ولعلَّ اطلاعه على ما أنتجه الروائيون في مصر منذ البدايات وحتى رواية «زينب» (التي يُؤرَّخ بها عادة لبداية المرحلة الفنية في تاريخ الرواية العربية) هو ما دفعه إلى أن يستهلَّ روايته «التوأمان» باعتذار محجّب: «وهي وإن تكن غيرَ مسبوكة تماماً على أصول الفنِّ الروائي العصري، فقد يجد القارئ فيها صورة صحيحة عن أضرار المعاهد الأجنبية، المؤسسة في الشرق نفسه». وإذن فالأنصاري الذي كان مخلصاً لعروبته، غيوراً على هُويته، عايش سياقاً ثقافياً مختلفاً (في مصر)، فكتب في ظله روايته «التوأمان»، مسقطاً إحدى قضاياه المهمة على سياق ثقافي صغير (المملكة العربية السعودية في تلك المرحلة)، سياق لا يمكن أن يستجيبَ لاعتبارات هذه القضية وعثراتها، ولعلّ مفردة «الشرق» الواردة في المقتطف السابق تدلُّ دلالة واضحة على هذا، فهو -إذن- ينطلق من ضرر ناتج عن تأسيس معاهد أجنبية في الشرق بوجهٍ عام وليس في السعودية وحدها، ففي ذلك الوقت لم يكن في السعودية نظام تعليمي حكومي، فضلاً على وجود نظامٍ ينفتح على معاهد أجنبية كتلك التي نجدها في مصر. إنّ استعارة سياق ثقافي خارجي من أجل تدشين مرحلة الريادة في الرواية السعودية، يضع أيدينا على لحظة الخلل الأولى التي عانت منها الرواية السعودية -والخليجية بصفة عامة- في علاقتها مع سياق حقيقي، يتطلبها، ويوظف خصائصها وسماتها، وتبدو امتداداً لاستعارة العرب للشكل الروائي من أوروبا، واستنباته في بيئة لا تتعاطى مع ماهية الرواية ولا تاريخها. الثانية: إنّ منطقة الخليج العربي تحديداً تمتاز من الدول العربية الأخرى بمرورها ب(طفرة) اقتصادية (انفجارية إن صحّ هذا الوصف)، لم تسبقها أو تمهد لها إرهاصات أو مظاهر تحول اجتماعي وثقافي وأنتروبولوجي، ولم تواكبها طفرة في تطور الأبنية والمؤسّسات الثقافية وأشكال التواصل الاجتماعي؛ تسهم في إنضاج عملية نقل الفرد الخليجي والشخصية الأساسية الخليجية فكرياً وثقافياً ليكون بمستوى النقلة الاقتصادية التي فاجأته؛ لذلك توفرت أضلاع النشر (الكتابة، دار النشر، المال) لأسباب اقتصادية -أوّل الأمر-، فأفاد منها المبدع والمبدعة في الخليج حضوراً ثقافياً، ولكنه حضور لم يُنظر إليه في العالم العربي -من حيث الجملة- على أنه إضافة جديدة. لقد استطاع العامل الاقتصادي المتسارعة نتائجه أن يصنع فضاء معمار المدينة في دول الخليج وفق النمط الغربي، لكنه لم يستطع صنع معمار فكري ينتج مدينة مميزة له، ولم يستطع أن يتجاوز الأسوارَ المحصّنة إلى المستوى الثقافي؛ وكان لهذا التفاوت بين العنصر المادي والعنصر الثقافي أثر واضح في المنجز الروائي الخليجي على مستويي الإبداع والتلقي -كما سيأتي-. الثالثة: إنّ منطقة الخليج مرّت بحالات من عدم الاستقرار السياسي، من أهمِّها: الحرب الخليجية الأولى 1981م، ثم الحرب الخليجية الثانية 1990م، ثم الحرب الأمريكية على العراق 2003م، هذا بالإضافة إلى تأثّر المنطقة وتأثيرها في كثير من الأحداث العالمية، كالثورة الإيرانية 1979م، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م. ولقد أسهم هذا الوضع -على مدى عقود- في جذب الانتباه إلى هذه المنطقة، وشكّل الكثير من القضايا والأسئلة، التي دفعت الكتاب والأدباء (من الجنسين) في هذه الدول إلى مجاراتها بالكتابتين: الوظيفية والأدبية، وفي هذا السياق برزت الرواية؛ لكونها تمنح الروائي القدرة على مشاغبة السياق بأقلّ كلفة من التبعات، أي: إنها تمكنه من التعبير حتى مع وجود موانعه. هذه المشكلات الثلاث جعلتنا أمام مفارقة مهمّة، طرفها الأول: النقلة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج، فأثّرت في سبل العيش، وفتحت أبواب التعلّم والتعليم، ورفعت معدّل الرفاهية لدى إنسانها. وطرفها الثاني: عدم وجود مواكبة ثقافية لهذه النقلة، تؤسّس للمدنية، ومبادئها المهمّة من جهة، وعدم وجود تاريخ للرواية من جهة أخرى، يتأسس به وعي إبداعي بكنه الرواية وماهيتها. لذلك يمكن القول إنّ السياقَ الثقافيَّ في دول الخليج لم يكنْ في البدء مهيأً لولادة نتاجٍ روائي جَادّ وناضج، ولم يكن بعد ذلك بالمستوى الذي يمكّنه من التناغم مع منطق الرواية وسماتها وخصائصها،؛ لذلك كانت الروايات الخليجية، والنسائية منها تحديداً، تُكتَبُ فوق السياق (باستعارة سياق ثقافي خارجي)، أو تحته (بمراعاة اشتراطات السياق الثقافي، تلك التي تفرغ الرواية من خصائصها وسماتها الجوهرية).