كان كثيرٌ مما يحدث من مآسي الحرب في سوريا ملتبساً غائماً يثير الحيرة وينقض فيه التفسيرُ التفسيرَ؛ لكثرة تداخل الأطراف المتحاربة وتعدد الفصائل المقاتلة وطريقة النظام وإيران وحلفائهما في إدارة الصراع مع الجماعات الثائرة وتوظيف النظام البعدَ الأصوليَ العميقَ جداً في تطرفه وتلبسه وادّعائه التدين السلفي - كما هي حالة تنظيم «داعش» - ليُواجه الفصائل بنفس السلاح، أي مواجهة الثائرين السنّة بفكرهم، أو بمن هم منهم، بمعنى أن تنشغل الجماعات الثائرة بالاحتراب مع نفسها، وقد قال بشار إبان بدء الثورة عليه وتقاطر المتعاطفين معها إلى الأرض السورية: «إننا سنحارب الإرهاب بإرهاب مماثل، وسنصدِّر هذا الإرهاب إلى الدول التي أرسلته إلينا» كما يزعم. وهو ما حدث كما خطط بشار؛ فقد تم تشكيل تنظيم «داعش» على نهج تكفيري خوارجي، وأطلق آلافاً من عناصر التنظيمات المتطرفة من السجون السورية لتنضم إلى «داعش» باندفاع عاطفي سطحي من الكثرة الكاثرة من عناصر تلك الجماعات، وتمت إدارة التنظيم من قِبل استخبارات دولية متآمرة مع إيران والنظام السوري والعراقي لإدخال المنطقة كلها في أتون ما أسمته كونداليزا رايس عام 2006م بالفوضى الخلاّقة التي كان يُهيأ لها منذ ذلك التاريخ، ولم تشتعل شراراتها بعد التهيئة إلا 2011م. أكتب هذه المقدمة القريبة من التمهيد التاريخي؛ لكي أصل إلى أن سياق «المؤامرة» الدولية لتمزيق وإعادة رسم المنطقة العربية ب «سايكس - بيكو 2» جديدة لم تتكشف كثيرٌ من فصولها إلا بمرور الوقت وتتابع الأحداث؛ فنحن لم نكن ندرك من قبل أن من فصول المؤامرة إسقاط الشاه وتنصيب «الخميني»، ليشارك بما كُلف به من دور في تنفيذ بعض فصول القصة المأساوية، ولم نكن نعلم لِمَ افتعل الغرب تحريض النظام العراقي إبان حكم صدام حسين على خوض معركة عبثية مع حكم الملالي، وأن المقصود كان إسقاط العراق مبكراً تحت حكم الفرس، وحين لم يتحقق الهدف؛ بل زادت قوة العراق قوة جره الغرب إلى خوض معركة غبية أخرى كانت هي التي حققت الهدف البعيد؛ وهي مغامرته الحمقاء باحتلال الكويت أو ما أسماها «الولاية التاسعة عشرة»، فكانت المصيدة التي أنهت القوة الأولى الكبرى للعرب؛ وهي الجيش العراقي الذي كان يُصنف بأنه رابع أقوى جيش في العالم، وبعد القضاء عليه واحتلال أمريكاالعراق سلّمته مباشرة إلى الفرس، ثم بدأ العمل على تهيئة الأجواء العربية للثورات بما أسماه الإعلام الغربي «ربيع العرب» من خلال تبني ودعم وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، ووضعت الخطة الخفية لإسقاط الحكومات العربية كلها؛ لكي تدخل المنطقة العربية في فوضى «خلاّقة»!! تقود إلى رسم جديد للمنطقة العربية على النحو الذي يريده الغرب والمؤدي إلى إضعاف العرب إلى درجة الصفر من خلال الارتباك الأمني والثورات والصراعات الداخلية التي ستقود إلى الفرقة والقتل والتهجير واستنزاف الاقتصاد واستمرار حالة الحرب بين طوائف الدولة الواحدة أو بين الجيران، ثم إلى التجزئة باستقلال الأقليات والعرقيات والطوائف في دويلات صغيرة؛ تلك الحقيقة التي أصبحت أمراً واقعاً كما عبر عنها بالأمس رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه بحضور زميله الأمريكي حين قال: «إن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة»، مؤكداً أن دولاً مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة، وقال أيضاً: «إن المنطقة ستستقر مجدداً في المستقبل، ولكن ستكون مختلفة عن تلك التي أُقيمت بعد الحرب العالمية الثانية». وتدخل «المؤامرة» الآن في أشد فصولها ظلاماً وحلكة وألماً ودماً؛ فمحاولة إثارة الصراع الطائفي مستمرة، كما يقع بين وقت وآخر من تفجيرات داعشية في المساجد أو الحسينيات، وهي الطريقة نفسها التي نفذتها داعش في العراق، والقتل وتهجير السنة إلى المنافي العالمية مستمر. .... يتبع.