توقَّع مركز السياسات النفطية والتوقعات الاستراتيجية أن تُبقي دول أوبك إنتاجها على المستويات العالية في الإنتاج لتمويل حاجياتها الماسة، وخشية فقدان حصصها السوقية لصالح الدول الأخرى. وأوضح المركز في تقرير حديث، تنفرد «الجزيرة» بنشره، أن هناك عوامل ضغط كبيرة في أسواق النفط، منها حاجة الدول النفطية الخليجية لضخ المزيد من النفط في الأسواق لتمويل حروبها وتمويل حلفائها؛ ما سيضغط أكثر على الأسعار التي من المتوقع أن تبقى في مستوياتها الحالية، وفي نقطة تذبذب مستمرة على المدى المنظور، ما لم تكن هناك أحداث طارئة أو عوامل مفاجئة لم تكن في الحسبان، أو اتخاذ «أوبك» قراراً في اجتماعها المقبل نهاية العام بخفض سقف الإنتاج إذا تم التنسيق مع الدول من خارج المنظمة كروسيا والمكسيك والنرويج بخفض إنتاجها أيضاً. وبيّن رئيس المركز الدكتور راشد أبانمي أن أعضاء أوبك يدركون أهمية أي خطوة في تخفيض سقف الإنتاج، وأن هذه الخطوة لها تأثيرها على الحصة السوقية لأعضائها؛ ما يعني أن أي إجراء بخفض سقف الإنتاج دون تقيد الدول الأخرى من خارج المنظمة بخفض إنتاجها سيفتح المجال أمام تلك الدول من خارج «أوبك» للاستحواذ على حصص دول أوبك في الأسواق العالمية، وهذا يجعل دول المنظمة مترددة في اتخاذ أي إجراء من دون التنسيق المسبق مع الدول المنتجة من خارج «أوبك»، كما أن الضغوط التي يقوم بها بعض الأعضاء في أوبك - فنزويلا مثلاً - من أجل التدخل في السوق لدعم الأسعار لن تنجح إلا بتوافق وتفاهم واسع مع الدول الخليجية، التي تلعب دوراً رئيساً في قيادة «أوبك». وبشكل عام، فإن أي خفض محدود في إنتاج المنظمة لن يدعم الأسعار في ظل حالة تخمة ووفرة المعروض الحالية، بل ستفقد دول «أوبك» حصصها السوقية، وهي الآن في أمسّ الحاجة إليها لتمويل احتياجاتها المالية التي ترتبت عليها من جراء النزاعات القائمة في الشرق الأوسط. مشيراً إلى أنه في حال التوصل إلى اتفاق بين الدول المنتجة فإن ذلك لن يحدث تأثيرات قوية على واقع السوق على المدى القريب، وسيظل في مستويات قريبة من الأسعار الحالية إلى أن يتحسن الاقتصاد العالمي بمؤشرات تساهم في رفع الطلب على الطاقة، ولكن يبدو أن تعافي الاقتصاد سيستغرق وقتاً أطول مما هو متوقع حتى تتضح تأثيراته على الأسواق. وأكد أبانمي أن استمرار تراجع الأسعار والحاجة الماسة لتمويل السياسات الهادفة لتهدئة المنطقة سيؤجل الاستثمارات النفطية في منطقة الخليج العربي؛ فالأولويات ليست في استثمار مشاريع تتحمل الانتظار، بل في تمويل المشاريع، سواء الاقتصادية أو السياسية أو حتى العسكرية، غير القابلة للتأجيل في المنطقة. كما أن إنتاج النفط من خارج «أوبك» - كما هو الحال في بحر الشمال على سبيل المثال - يواجه صعوبات أكثر من غيره نظراً للارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج؛ وهو ما اضطر الشركات النفطية الكبرى العاملة في بحر الشمال إلى اتخاذ قرارات سلبية، تمثلت في خفض حاد للوظائف، وتسريح العمالة، وترشيد الإنفاق بشكل حاد في جميع جوانب العملية الإنتاجية؛ الأمر الذي يمكن معه التنبؤ بالمزيد من تقليص الاستثمارات في المجال النفطي، يشابه إلى حد كبير عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات. وقال أبانمي: تخضع أسعار النفط لعوامل متشابكة، وهي في تغير وتطور مستمر، منها ما هو متوقع، ومنها ما هو غير ذلك. فالعلاقة بين سعر النفط والطلب معقدة جداً، وتتفاعل مع عناصر، بعضها يستحيل التنبؤ بحدوثها. فالعوامل الأساسية المؤثرة في تقديرات الطلب المستقبلي كثيرة ومتشابكة؛ وبالتالي في أسعار النفط. كما أن أهمية النفط بالنسبة لدول الخليج العربي تكمن في أنه المحرك الرئيس لكل أوجه الاقتصاد الوطني. إن جميع الدراسات التي أُجريت من قِبل شركات النفط والبنوك والخبراء في السنوات الماضية لم تضع أي تصور أو سيناريوهات لوصول الأسعار إلى مستوياتها في الربع الأخير من 2014، أي لانخفاض حاد لأكثر من نصف 115 دولاراً للبرميل، أي إلى أقل من 50 دولاراً للبرميل. وحتى بعد أن وصلت لتلك المستويات غير المسبوقة كانت التقديرات السائدة آنذاك أن مستويات الطلب ستستمر في التصاعد لتضغط على الأسعار لمستويات 100 دولار، ولكن بعكس التوقعات بقيت الأسعار تتذبذب في مستويات الخمسين دولاراً منذ انهيارها العام المنصرم. ولعلنا نعتبر من ذلك، ونأخذ الحيطة في هذا الشأن، وهو أن الجميع كان مخطئاً بشأن انتكاسة الأسعار وإمكانية وصولها إلى تلك المستويات، وما ارتبط بها من هبوط حاد في الطلب على النفط. وأضاف أبانمي: رغم الصعوبة في توقع أسعار العام المقبل إلا أن إبراز أهم العوامل المتعلقة بتأثير سعر النفط على الطلب، مع إيضاح تأثير كل منها بشكل مختصر، سيلقي الضوء على اتجاهات الأسعار والمستويات المتوقعة لها مستقبلاً. فأسعار النفط بصورة جوهرية تؤثر وتتأثر بموازين القوى العالمية والإقليمية؛ وبالتالي فإن الدول التي استطاعت أن تكون طرفًا في الصراعات الموجودة في الشرق الأوسط لن تستطيع استكمال هذا الدور بدون النفط. وبمعنى آخر، فالدول التي تضخم دورها في صراعات المنطقة اعتماداً على هذا المورد هي نفسها قد تتأثر بانخفاض أسعاره؛ ولذلك فإن انخفاض الأسعار له أهمية قصوى للتطورات المحتملة في التداعيات المترتبة عليه، كما أن للتقلبات الكبيرة في الأسعار تداعيات ملحوظة في اقتصاديات وسياسات دول العالم قاطبة، وحتى الأحوال الاجتماعية، سواء المستهلك منها أو المنتج. وعليه، فإن الاستشراف المستقبلي لأسعار النفط في العام المقبل ليس بالأمر الهين، لكنه ليس مستحيلاً إذا كان ذلك مبنياً على أسس علمية وعملية، تأخذ في الحسبان ماهية النفط والكيفية التي تعمل فيها أسواق النفط ووسائله وأنواعه والعوامل الأساسية والمؤثرة بمداها القصير والمتوسط والطويل الأجل، التي تؤثر في تغيُّر الأسعار. ولفت أبانمي إلى أن وفرة المعروض الكبيرة، وانخفاض الطلب على النفط، تسبَّبا في تراجع حاد للأسعار، وبشكل غير طبيعي، وهو من جانب العرض نتاج طبيعي للتطور المذهل، أو بما اصطلح عليه «ثورة النفط الصخري»، التي حدثت في موارد النفط وأنواعه وطرق الحفر الأفقي التي طورت إنتاج النفط، وخصوصاً الزيت والغاز الصخري؛ إذ تزامن ذلك مع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي؛ ما أدى إلى حالة لم يعد بالإمكان معها السيطرة على وفرة المعروض؛ وهو ما جعل «أوبك» تعدل في سياساتها التقليدية إلى سياسة واقعية، تتمثل في التركيز على الحفاظ على حصص الأعضاء السوقية إدراكاً منها بأن خفض الإنتاج من جانب «أوبك» في تلك الأوضاع الاستثنائية لن يدعم الأسعار في ضوء وفرة الإنتاج وتعدد وتنوع الموارد؛ وبالتالي سهولة تعويض أي نقص تتسبب فيه «أوبك» بتعويضه من الدول خارج المنظمة. كما أن هبوط أسعار النفط في الآونة الأخيرة، وبهذه الصورة المربكة للأسواق والاقتصادات، جاء بشكل مباشر نتيجة لعوامل مباشرة، أثرت على السوق المشبعة أصلاً بالمعروض. وقد تمثلت الشرارة الأولى في دخول كميات من النفط، تصل إلى 1.5 مليون برميل، بعد قرار رفع الحظر عن النفط الإيراني. فدخول هذه الكمية إلى الأسواق العالمية شكَّل القشة التي قصمت ظهر البعير لأسواق هي في الأصل كانت متخمة بارتفاع نسبة المعروض بسبب الزيت والغاز الصخري، وما أحدثاه من زيادة كبيرة في المعروض النفطي بسبب النفط الصخري وتدخُّل الحكومة الأمريكية وتشجيعها الشركات العاملة في إنتاج الزيت الصخري بالاستمرار في الإنتاج من خلال تقديم الدعم الاقتصادي المتمثل في تخفيف الضرائب؛ ما انعكس على سعر تكلفة الإنتاج، الذي بدأت تنخفض تكاليف إنتاجه للشركات الأمريكية من 60 دولاراً للبرميل إلى مستويات وصلت إلى 20 دولاراً للبرميل بسبب الدعم الحكومي لتلك الشركات المنتجة للزيت الصخري، وهو الرقم القريب من متوسط تكلفة الزيت التقليدي. وقال رئيس مركز السياسات النفطية والتوقعات الاستراتيجية: كل هذا جاء تزامناً مع المؤشرات الاقتصادية السلبية المتعلقة بنسبة النمو في الاقتصادات العالمية وتباطئها؛ إذ تسجل الصين - وهي المنطقة الأكثر طلباً للطاقة - تراجعاً في الأداء الاقتصادي؛ فالاقتصاد الصيني يبلغ حجمه 10 تريليونات دولار، وأهميته لا تنبع من حجمه، بل من قدرته في التأثير على أسعار السلع الرئيسية، خاصة النفط؛ ما أزَّم وعمَّق الأزمة؛ وبالتالي أدى إلى تأخر تعافي سوق النفط الخام. فالإجراءات الاقتصادية الإصلاحية التي اتخذتها الصين لم تنجح حتى الآن في انتشال الاقتصاد من أزمته، وبالخصوص خفض العملة الوطنية أكثر من مرة. وربما قد تقود الأزمة الصينية إلى حالة ركود اقتصادي عالمي واسع؛ كون الصين تسهم بنسبة كبيرة في الناتج الاقتصادي العالمي، تبلغ في أقل تقدير 20 %؛ إذ يتوقع الخبراء أن يقود التباطؤ في الصين إلى استمرار انخفاض أسعار النفط إلى مستويات دنيا، ربما تصل إلى 20 دولاراً للبرميل، وهو احتمال لم يعد مستبعداً وسط شبه انهيار في الطلب العالمي، وشبه انفجار في كمية الخامات المعروضة. فالمؤشرات الاقتصادية السلبية للاقتصاد الصيني أتت في ظروف سلبية ومشكلات جمة، تواجهها منطقة اليورو أيضاً، وعلى رأسها موضوع إفلاس اليونان، وتراجع بعض الاقتصادات في أوروبا، إضافة إلى التوتر السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، وهي الأقرب لمنابع النفط، وحاجة الدول النفطية الخليجية لضخ مزيد من النفط في الأسواق؛ ما سيضغط أكثر وأكثر على الأسعار؛ ما يعني إبقاء إنتاج الدول الأعضاء في أوبك على المستويات العالية في الإنتاج لتمويل حاجياتها الماسة، وكذلك خشية فقدان حصصها السوقية لصالح الدول الأخرى. أي أن هناك عوامل ضغط كبيرة في أسواق النفط، وستبقى الأسعار في مستوياتها الحالية، وفي نقطة تذبذب مستمرة في المدى المنظور، ما لم تكن هناك أحداث طارئة أو عوامل مفاجئة لم تكن في الحسبان، أو اتخاذ «أوبك» قراراً في اجتماعها المقبل نهاية العام بخفض سقف الإنتاج إذا تم التنسيق مع الدول من خارج المنظمة كروسيا والمكسيك والنرويج بخفض إنتاجها أيضاً.