في ضوء كتاب الجامع لمفرادات الأدوية والأغذية لابن البيطار كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية محمد جمعة عبدالهادي موسى باحث في التاريخ الإسلامي «كلية الآداب» جامعة القاهرة (2) توفي ابن البيطار تاركاً مصنفات أهمها: «كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»، وهو معروف بمفردات ابن البيطار، وقد سماه ابن أبي أصيبعة (الكتاب الجامع في الأدوية المفردة)، وهو مجموعة من العلاجات البسيطة المستمدة من عناصر الطبيعة، وقد تُرجم وطبع. رتب ابن البيطار كتاب «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» على حروف المعجم مراعياً الحرفين الأولين، وجمع في كل حرف أسماء العشب والحيوان والأحجار، كما أورد فيه عدداً من الأدوية المركبة وهو يفسر ماهية كل مادة، ويرجع إلى أقوال من سبقه في بعض الأحيان، وربما علق على بعضها لتصحيح قول أو ترجيح رأي آخر. ونبه في كتابه إلى أوهام وأخطاء وقع فيها من سبقه. وأورد في كتابه أسماء الأعشاب والحيوان والأحجار بمختلف اللغات وذكر أسماءها الدارجة المشهورة في مختلف المناطق. فقد ألف ابن البيطار في النبات فزاد في الثروة العلمية.. حيث يعد كتابه (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) والمعروف أيضاً بمفردات ابن البيطار من أنفس الكتب النباتية، فقد وصف فيه أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني منها 300 من صنعه، مبيناً الفوائد الطبية لكل واحد منها. أوضح في مقدمة كتابه الأهداف التي توخاها منه، ومنها يتجلى أسلوبه في البحث وأمانته العلمية في النقل واعتماده على التجربة كمعيار لصحة الأحكام إذ يقول إنه عني في كتابه بذكر ماهيات هذه الأدوية وقوامها ومنافعها ومضارها وإصلاح ضررها والمقدار المستعلم في جرمها أو عصارتها أو طبيخها والبدل منها عند عدمها. وهو القائل في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه في أبحاثه: (ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذت به، وماكان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم أعمل به). (3) مصادر ابن البيطار في الحديث عن البردي اعتمد ابن البيطار على مصادر كثيرة في كتابه منها العربية ومنها اليونانية، أما المصادر العربية فمنها ما أورده من كتب الطبيب الأندلسي سليمان بن حسان صاحب كتاب «طبقات الأطباء والحكماء»، وكتب أستاذه أبو العباس النباتي، تناول ابن البيطار ما قاله المحدثون كما ذكر ذلك هو بنفسه، عن الفوائد والمنافع الطبية لنبات البردي، فأورد ما قاله الشيخ الرئيس ابن سينا، أمير الأطباء أبو الطب الحديث في العصور الوسطى، ومحمد ابن أسلم الغافقي الطبيب الأندلسي وغيرهم أمثال أحمد بن أبي خالد. أما المصادر غير العربية اليونانية منها واللاتينية، فمنهم الطبيب اليوناني ديسقوريدس، له كتاب (كتاب الحشائش والأدوية) أو (كتاب الخمس مقالات) أو (المقالات الخمس)، وكذلك الكاتب والطبيب الإغريقي جالينوس، والطبيب والمترجم اليهودي ماسرجويه (ماسرجيس)، عاش في القرن الأول الهجري - القرن السابع الميلادي، دخل تاريخ الطب العربي من أوسع أبوابه، فهو أَوّل مترجم لكتاب طبي إلى العربية. (4) نبات البردي وأسماؤه يطلق اسم البردي على نبات مائي عرفه المصري القديم منذ آلاف السنين، وأخذ هذا النبات شهرة فريدة عن غيره من النباتات الأخرى عبر التاريخ. أورد ابن البيطار نبات «البردي» مدرجًا في كتابه تحت حرف الباء، بكلمة «بردي»، وقد عرضه بشكل خاص من خلال ما نقله عن غيره ممن سبقه، وكذلك من كلام المُحدثين عن هذا النبات، ومن الفريد أنه حينما أورد هذه الاقتباسات رتبها ترتيبًا رائعًا وحكيمًا يحسب له كأحد أبرز علماء النبات الذين أبدعوا في إبانة فوائده وجواهر استعمالاته المختلفة. كان أول من بدأ به ابن البيطار فيمن عرف نبات البردي هو العالم والطبيب الأندلسي سليمان بن حسان، وأورد له تعريفًا عن نبات البردي، وصلته بأهل مصر، وموضع إنباته، ووصفه، قائلاً: «سليمان بن حسان»: «هو الخوص وتعرفه أهل مصر ب «العافر»، وهو نبات ينبت في الماء، وله ورق كخوص النخل، وله ساق طويلة خضراء إلى البياض، عليه قيقلة كثيرة، ويتخذ هذا النبات كاغد أبيض بمصر يقال له القرطيس فمتى قيل في الطب قرطاس مُحرق فإنما يراد به القرطاس الذي يكون من البرس.» ومن الملحوظ أن ابن البيطار تناول نبات البردي فيما تعلق بالأمور الطبية سواء كانت من قريب أو من بعيد، ثم أدلى بدلوه في ذكر ما يتعلق بهذا الجانب من النواحي العلاجية كدواء. وسنجد أن ابن البيطار نتيجة منحاه هذا لم يذكر كثيراً من الأسماء الأخرى التي وردت عن نبات البردي. ومن أسماء البردي التي غفل ابن البيطار عن ذكرها في كتابه، ووردت في لغة المصريين القدماء، هي: «واج»، و»محو»، «محيت»، «شو»، و»شفدو» وهي كلمة تستعمل للدلالة على لفافات الورق التي استعملت في الكتابة، وقد تبين منها مدى اهتمام المصريين القدماء بنبات البردي. ومن أسماء البردي التي عرفت في اللغة اليونانية، فيما أورده مؤرخي الحضارة اليونانية أمثال ثيوفراتس، وسترابوان، وهيردوت، هي «بابيروس»، «بيبلوس» ويذهب بعض الباحثين إلى أن أصل هذه الكلمة التي أطلقها القدماء اليونانيين على هذا النوع من النبات ربما كان مقتبساً من الميناء الشهير في مدينة «جبيل» على ساحل فينيقيا شمالي بيروت، واسم هذه المدينة حتى اليوم «بيبلوس».. حيث كان يصدر هذا النبات بعد تصنيعه ورقا إلى بلاد الإغريق عن طريق ميناء هذه المدينة اللبنانية الجميلة. ومن أسماء البردي في اللغة العربية، التي ظهر كثير منها في العهد الإسلامي، منها أسماء أطلقت عليه كنبات قبل تصنيعه ورقاً ومنها أسماء تصف الحالات التي يمر بها هذا البنبات، ولا غرابة في ذلك فإن ورق البردي تغلغل في شتى الحواضر الإسلامية إبان الفتوحات زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. ويلاحظ أن ورق البردي كان مفضلاً في الكتابة عن غيره وذلك لأنه كما ذكر البيروني «لا يمكن محو الكتابة عليه دون إتلاف البردي» لذلك فضله الخلفاء وعليه القوم في عمل مراسلاتهم ومكاتباتهم. على كل حال كثرت أسماء البردي في اللغة العربية منها «البردي» وأحياناً «بِردي» بكسر الباء، و»بُردي» بضم الباء، و»بُردي» بفتح أوله (الباء)، وضم الآخر (الياء)، و»أبردي» بفتح الهمزة والباء. ومن الأسماء الأخرى: «القنِفخَر» بكسر النون، وفتح الخاء، و»السرير»، و»الرايزوم»، «نبخ»، واسم «القنْصِف»، وبالإضافة إلى كل ما سبق، هناك أسماء أخرى متنوعة لهذا النبات أوردتها العديد من المصادر العربية والأجنبية، منها: خفأ، حفاره، لوئي، ورق البابيروس، غريف، فيلكون، كولان، بابورس، فافير، بردية، وغيرها. وهناك أسماء أطلقها العرب على البردي بعد أن يصير ورقاً، من بين هذه الأسماء: «قرطاس» ومنه قِرطس، قرطاس، محرق، قرطاس مصري، ولقد أوردت العديد من المصادر العربية، ذكراً لهذا النوع من مواد الكتاب، فلقد ذكر السيوطي (ت911ه)، نص في غاية الأهمية حيث يقول: «وقيل: إن يوسف عليه السلام أول من اتخذ القراطيس، وكتب فيها.» أيضاً من الأسماء الشهيرة التي أطلقت على البردي في العهد الإسلامية اسم «طومار»، وأحياناً كانت تقرأ «طامور»، وجمعها «طوامير»، هذا ويصنف علماء النبات نبات البردي أحد أجناس الفصيلة السعدية «سيبرس». (5) أماكن وجود نبات البردي اشتهرت عدة مدن بزراعة هذا النبات منها: بنها، بوصير، سمنود، دهقله، وذكر اليعقوبي أن مدينة «بورة» وهي عبارة عن حصن على ساحل البحر من عمل دمياط اشتهرت بزراعة نبات البردي هي ومدينة «إخنو» التي يقال لها «وسيمة»، وهي التي تقع على ساحل البحر في الجانب الغربي من شمال الدلتا عند رشيد. ولا يستبعد أن تلك المدن التي اشتهرت بزراعته، اشتهرت أيضاً بضاعته، لأن نبات البردي سريع التقصف ولا يتحمل مشقة النقل إلى أماكن بعيدة لتصنيعه وقال كما أن مصانعه لا تتطلب أجهزة أو أدوات كثيرة، وذكر المقريزي أن نبات البردي كان ينمو في صعيد مصر وفي وادي النطرون. وهنالك العديد من المدن الأخرى تتوزع في شمال وجنوب مصر، حيث تم العثور على العديد من لفائف البردي منها في مدن محافظات الوجهين القبلي والبحري، منها في أسوان وإدفوا ودندرة وكوم وإشقاو بمحافظة سوهاج وقرى أخرى مثل الأشمونيين والبهنسا ومدينة الفيوم وسقارة وغيرها. وأورد ابن البيطار ما قاله أستاذه أبو العباس النباتي عن البردي، الذي بين أشهر أنواعه، وموطن وجوده في صقيلة ومصر. فقال: (هو -أي البردي- معروف في كل البلاد ومنه النوع المسمى ب»العافر»، ذكره «ديسقوريدوس»، وهذا بصقلية موجود معروف بها وأهل البلاد يسمونه «يبير» بياءين معجمتين في النطق بنقطة واصلة من أسفلها بعدها ياء باثنتين من أسفل ثم راء. ومن هذا النوع من «البرس» كانت تتخذ القراطيس المستعملة في الطب بالديار المصرية، وقد جهلت الآن، وهو عندهم في أماكن، وبصقلية في بركة أمام قصر السلطان، وفيه شبه من البردي، إلا أن ورقه وسوقه طوال مستديرة خضر في غلظ عصا الرمح الصغير نحو القامة وأكثر، وهي خوارة متفرقة تتشظى إذا رضت إلى شظايا دقيقة، وربما صلحت أن تصلح منها الأرشية، وفيها قوة، وعلى أطرافها رؤوس مستديرة ضخمة كأنها رؤوس الثوم الكراثي إلا أنها أضخم، عليها هدب ذهبي اللون مليح المنظر). أما صفة عمل القرطاس فقد بينها ابن البيطار من كلام أستاذه «أبو العباس النباتي» أيضاً في صفة عمل القرطاس عند المصريين، فقال: (وصفة عمل القرطاس عند المصريين في الزمان الأول كانوا يعمدون إلى سوق النوع فيشقونها بنصفين من أولها إلى آخرها ويقطعونها قطعاً ويوضع كل قطعة منها إلى لصق صاحبتها على لوح من خشب أملس، ويأخذون ثمر البشنين ويلزجونه بالماء، ويضعون تلك اللزوجة على القطع ويتركونها حتى تجف جداً ويضربونها ضرباً لطيفاً بقطعة خشب ش به الأرزية صغيرة حتى تستوي من الخشن فتصير في قوام الكاغد الصرف الممتلئ ويستعملونه في العلاج). ثم أدلف ابن البيطار أحد التعريفات الأخرى الهامة التي عُرف بها نبات البردي من خلال كتاب (المقالات الخمس) ل «ديسقوريدوس»، والذي ذكره في مقالته الأولى من هذا الكتاب، فقال: (بانورس: وهو البردي، ومنه تعمل القراطيس). (6) استخدامات نبات البردي أخذ نبات البردي شهرة فريدة عن غيره من النباتات الأخرى عبر التاريخ وربما كان ذلك راجعاً لاستخداماته العديدة في الحياة المصرية القديمة، ولعل أبرزها استعماله كمادة للكتابة، ومما سبق ذكره يتبين لنا تعدد أسماء البردي في اللغة العربية مما يدل على تغلغل استخدامه في نواحٍ عديدة في الدولة الإسلامية بداية من عهد الخلفاء الراشدين مرورًا بالعهدين الأموي ثم العباسي. فأكثر مكاتبات الأمويين كانت على البردي والقباطي. وفي أيام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، كان يباع درج الطومار بدرهم، وبلغ من وفرته وانتشاره وجود مكان خاص ببيعه، هذا المكان هو حي «الكرخ» ببغداد، أنشئ به درب يعرف بدرب القراطيس، ويذكر السيوطي أن درج البردي كان ثلاثين ذراعا وأكثر في عرض شبر. كانت غالبية هذه النباتات تنمو في المستنقعات العذبة المياه أو الضاربة إلى الملوحة.. ونبات البردي يعد من النباتات ذوات الفلقة الواحدة، ومقسم إلى ثلاثة أقسام، قسم سفلي مغمور في المياه، وقسم ظاهر فوق سطح الأرض، وقسم ثالث وأخير في قمة النبات وهو عبارة عن زهرة أطلق عليها العالم العربي ابن البيطار «قيقلة». وقد تترك ابن البيطار إلى مدى القدرة على الانتفاع بنبات البردي واستخداماته في الطب كعلاج وطريقة استخدامه كدواء، وهو هنا يذكر ما يتعلق به في إطار الطب والأدوية، ورغم أن عنوان كتابه احتوى كلمة الأغذية إلا أنه لم يشر إلى استخدام البردي كغذاء، حيث استعمله المصريون القدماء كطعام، وتناولوا الجزء الأسف من الساق نظرًا لنضارته وشكله الغص الطري.. ومن المعروف أن هذا الجزء هو الذي تغطيه الأوراق الحرشفية، ويقال إنه كان غذاء شعبيًا ذا طعم مقبول بسبب احتوائه على قليل من السكر، الأمر الذي جعله مستساغ الطعم. هذا ويذكر أحد الباحثين أن هذا الجزء كان يؤكل إما طازجًا أو مطبوخًا أو مشوياً كذلك استعمله بعض الناس كمادة مضغ مثل اللبان، حيث لاكوا لحاءه الداخلي ومصوّا عصيره وأكلوا جذوره الطازجة البيضاء. كذلك صنع من سيقان البردي مراتب للنوم، نظراً لليونة الألياف ومرونتها، كما استخدم في عمل سقوف العديد من الأكواخ والمنازل نظراً لخفة سيقانه الجافة، وقابليتها للتشكيل في حزم. كذلك عرف عن نبات البردي قدرته العجيبة في علاج بعض الأمراض منذ القدم واستخدم بشكل كبير في العهد الإسلامي فقد روى ابن البيطار في كتابه بعض النصوص التي نقلها عن الأطباء والحكماء القدامى. فمن الناحية الطبية بين ابن البيطار -كطبيب- استخدامه في إدمال الجروح إذا نقع في الخل والماء، وذلك من خلال ما قاله الكاتب والطبيب الإغريقي «جالينوس»، وأورده في مقالته السادسة، فقال: (إن هذا نبات ليس يستعمل في الطب وحده لكنه متى نقع وأحرق صار نافعاً، وذلك أنه إذا نقع في الخل والماء والشراب أدمل الجراحات الطرية إذا لف عليها، كما تدور إلا أنه في هذا الموضع إنما يقوم مقام مادة من المواد القابلة للأدوية الشافية، وأما إذا أحرق فإنه يصير دواء مجففاً على مثال الرماد والقرطاس المحرق، وإنما الفرق بينه وبين القرطاس المحرق أن البردي والدبس المحرق أضعف من القرطاس المحرق). ثم عاد ابن البيطار مرة ثانية ليذكر فوائد نبات البردي عند «ديسقوريدوس»، كعلاج للنواصير وفتحها، واستخدام المصريين له كغذاء، واستعماله في منع القروح الخبيثة في الفم، وفي سائر الأعضاء، فيقول: (وقد تستعمله الأطباء إذا أرادوا فتح أفواه النواصير فإذا أرادوا استعماله بلوه أولاً بالماء ثم لفوا عليه وهو رطب كتاناً وتركوه حتى يجف ثم أدخلوه في النواصير، فإذا أدخل فيها وانتفخ يفتحها، وأصله يغذو غذاء يسيراً، وقد تمتصه أهل مصر ويطرحون ثفله وقد يستعملونه بدل القصب، والبردي إذا أحرق إلى أن يصير رماداً واستعمل منع القروح الخبيثة التي في الفم وفي سائر الأعضاء من أن تسعى في البدن والقرطاس المحرق أقوى فعلاً من البردي المحرق). وكما هو معلوم فإن القرطاس المحرق إنما يعني رماد نبات البردي المحروق، والبردي المحروق هو الرماد المتخلف عن احتراق سيقان هذا النبات بالذات. ونعتقد أن ابن البيطار كان له حكمة في تأخير ذكر هذه الفائدة ل «ديسقوريدس» رغم قِدمه (ت90م)، وَقَدم «جالينوس» بفائدته، وجعله أول من يذكر في فوائد العلاج بنبات البردي، لمكانة جالينوس من ناحية، حيث أثرت دراساته وكتاباته تأثيرًا كبيرًا في الطب الغربي لمدة 1300 عام لوصافته العلاجية. من ناحية أخرى يمكن أن تأتي فائدة «جالينوس» بأكثر بساطة وسهولة في الاستعمال والاستخدام، فقدمها على استخدمات «ديسقوريدوس»، وليس لنا في ذلك خبرة لبحث مآل ذلك سوى النقد والتعريف لما أورده ابن البيطاروالبحث في حكمته وطرقه ومنهجه عندما كتب عن نبات البردي، الذي قال هو عن نفسه أن ذلك يأتي من خلال التجربة والاستعمال، حيث قال: (ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذت به، وماكان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم أعمل به). وعلى كل حال فإن الاثنين - «ديسقوريدوس» و»جالينوس» - لهما مكانة وقدر كبير عند ابن البيطار، وتبين ذلك من قوله عن محتويات كتابه: (استوعبت فيه جميع مافي الخمس المقالات من كتاب الأفضل ديسفوريدس بنصه وكذا فعلت أيضاً بجمع ما أورده جالينوس في الست مقالات من مفرداته بنصه ثم الحقت بقولهما من أقوال المحدثين). بعد أن ذكر ابن البيطار فوائد نبات البردي العلاجية عند كل من العالمان «ديسقوريدوس» و»جالينوس»، تطرق لما قاله الطبيب الأندلسي «سليمان بن حسان»، وذكر فوائد البردي في علاج اللثة ومنع سيلان الدم منها، وعلاج القروح أيضاً، فقال: (والقرطاس إذا أحرق وأدخل في السنونات قبض اللثة قبضاً جيداً ومنع سيلان الدم منها، وإذا ذر على القروح والسحج المتولد عن الخف في العقب نفع من ذلك). ثم بيّن ابن البيطار بشكل مجمل منافع نبات البردي، فقال: (.. رماد القرطاس يمنع نزف الدم، وينفع من السعفة والرعاف، وينقي القروح من المعدة إذا شرب منه درهم، وشفع من قروح الرئة مع ماء السرطانات النهرية المطبوخة). تناول ابن البيطار ما قاله المحدثون كما ذكر ذلك هو بنفسه، عن الفوائد والمنافع الطبية لنبات البردي، فأورد ما قاله الشيخ الرئيس»ابن سينا»، أمير الأطباء أبو الطب الحديث في العصور الوسطى، ومحمد ابن أسلم الغافقي الطبيب الأندلسي وغيرهم. فعن فوائد «رماد القرطاس»، قال «ابن سينا»: (رماد القرطاس يمنع نزف الدم من الصدر). كما أورد فوائده عند طبيب العيون الأندلسي، محمد بن أسلم الغافقي: في علاج قروح الأمعاء، وعلاج الزكام، فقال: (رماد القرطاس قد يقع في الحقن النافعة لقروح الأمعاء فينتفع به وإذا استنشق دخانه نفع من الزكام). وقال «ماسرجويه»: (والبردي إذا مضغه آكل الثوم والبصل أو شارب النبيذ قطع عنه رائحته). وقال أحمد بن أبي خالد: (وقد يدق ورقه الأخضر ويسقى عصيره للطحال فينفعه منفعة عجيبة، وإذا أحرق وسقي مع الخل للطحال نفعه أيضاً ويطعم عرقه الغض لصاحب الطحال فينتفع به أيضاً). وقد أورد ابن البيطار في مواضع أخرى متفرقة من كتابه تعريفات للبردي، ووقعت تحت بعض المسميات والتعريفات، منها «حفاء، طوط، فافير، قرطاس»، ويمكن القول إنها تضيف إلى ما سبق ما تناوله ابن البيطار في كلمة بردي، التي وقعت تحت حرف الباء، وكان من الممكن أن يشير إليها تحت هذه الكلمة -بردي- ويشير إلى موضعها حيث مكان وجودها في كتابه. فيقول «حفاء»: هو البردي»، أما «طوط»: هو القطن المعروف وأيضاً قطن البردي عند عامة الأندلس يسمى هكذا»، و»فافير»: «وهو البردي وقيل هو نبات يشبهه معروف بمصر وصقلية، وهو الذي كانت تتخذ منه القراطيس في قديم الزمان وقد ذكرت ذلك في حرف الباء في رسم بردي.» وعند تعريفه للقرطاس، قال: «قرطاس»: متى قيل يراد به القرطاس المحرق الذي كان يصنع قديماً بمصر من البردي وقد ذكرته مع البردي في حرف الباء.» (7) نبات البردي عند العرب والمسلمين عرف العرب قراطيس البردي قبل الإسلام، وليس أدل على ذلك من ظهور اسم هذا النبات في أشعارهم وساء جاء صريحاً أو بإحدى الأسماء والأوصاف تلك التي كانت معهودة في هذه الفترة، ويظهر ذلك من خلال مقولة الإعشى فيما رواه ابن منظور في «لسان العرب»، حيث يقول: وقال الشاعر العربي الجاهلي «ساعده بن جؤية الهذلي» وأورد الزوراني في شرحه للمعلقات السبع قول الشاعر العربي طرفة ابن العبد: ومثل هذه الأبيات تدل دلالة واضحة على معرفة العرب لهذا النوع من مواد الكتابة وبعد ظهور الإسلام كانت هنالك مواد أخرى استعملت في الكتابة والتدوين كالرق والأكتاف والعسب وشقف الفخار واللخاف والعظام وغيرها من المواد البدائية التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية. بعد دخول مصر في جسم الدولة الإسلامية اعتبر البردي إحدى الثروات التي من الله تعالى بها على هذه الدولة الفتية حيث كان يصدر إلى العديد من الدول المجاورة في مقابل الحصول على الدنانير البيزنطية الذهبية والدراهم الساسانية. اعتبر المسلمون بعد فتحهم مصر البردي صورة قومية مكنتهم من زيادة دخل بيت المال من حصيلة مبيعات أوراق البردي للدول التابعة للإمبراطورية البيزنطية، وليس أدل على ذلك من ظهور العديد من الوثائق البردية التي كتبت في هذه الفترة بعدة لغات يونانية ولاتينية وفارسية أثناء وبعد الفتح الإسلامي. أما بالنسبة لاستعمال هذه الأوراق في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فهذا أمر ربما لا يحتاج إلى إثبات لأن ذلك هنالك العديد من الأوراق المحفوظة في عدد من المكتبات والمتاحف والجامعات العالمية منها مكتبة فينا القومية بالنمسا، وخاصة مجموعة الأرشيدوق رينر. وفي العهد الأموي حظى البردي بعناية خاصة من قبل الولاة المتتابعين لازدياد الحاجة إلى كميات الورق اللازمة لعلم المكاتبات بين الخلفاء والولاة والعمال والمحافظين وأصحاب الشرطة والمحتسبين وعمال الجزية والخراج وقادة الجيوش بعد اتساع رقعة الدولة في المشرق والمغرب، وتطلب ذلك الإقبال على ذلك النوع من الورق. وفي العهد العباسي شهد تطوراً ملحوظاً وإقبالاً كبيراً على استعمال الأوراق البردية بفضل سعة رقعة الدولة ودخول العديد من الناس في الدين الإسلامي من فرس وروم وأحباش وغيرهم. وليس أدل على انتشار قراطيس البردي في العهد العباسي وخاصة العهد الأول من وجود طريق خاص ببيع هذه القراطيس أي مكان لتجار ورق البردي أطلق عليه «درب القراطيس» في مدينة ببغداد.