أصبحت فكرة الزمن المتعارف عليها الآن تتفاوت، ليس حسب نظرية آينشتين، بل حسب معطيات العصر من سبل تواصل وتنقل وظروف معيشية. أعني هنا اختصار الزمن في إيصال المعلومة، وكذلك اختزال الخبر في تصوير فيلمي مسجل يمكن استعادته متى شئنا مستقبلاً. الزمن إذن ليس فقط ماضٍ وحاضر ومستقبل، بل زمن مخزن يحتمل استعادة الحدث وتناقله أيضاً. ومع سبل التواصل المتشعبة أصبح الزمن يرسم على إحداثيات متعددة. ببساطة اختلاف التوقيت من مكان لآخر يجمع أناس متحاورين في الآن ذاته، ولكن كلٌ له توقيت يخص المكان الذي هو فيه. أصبح هذا أمر واقعاً وليس ضرباً من الجنون. تدفق المعلومة لم يعد يعتمد على زمن ولا على مكان، كما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً مثلاً. عدة أخبار في اليوم تنقلنا لمشاهد مستقبلية إن لم يدركها جيلنا ستدركها أجيال قريبة بعدنا. ليس فقط عبر الوسائل المتعارف عليها في السفر في عصرنا هذا، بل لما ينتظر أن يصبح وسائل جديدة يحملنا لها العلم.على سبيل المثال: الهايبرلوب، وهو كبسولة للتنقل بين المدن والدول. سرعة الهايبرلوب تفوق سرعة الصوت، لتصل إلى 1200 كم في الساعة. ستستطيع أن تقطع المسافة ما بين نيويورك بالولايات المتحدة والعاصمة الصينية بكين في ساعتين، وبين لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو في 35 دقيقة، بمتوسط سرعة 598 ميلا في الساعة (962 كم/ساعة)، مع سرعة قصوى تبلغ 760 ميلا في الساعة (1،220 كم/ساعة). وتبلغ المسافة ما بين سان فرانسيسكو ولوس أنجليس نحو 615 كيلومتر تقريباً، ويستغرق السفر بالسيارة بين المدينتين نحو 5 ساعات و35 دقيقة تقريباً عند سلوك أقصر طريق بين المدينتين، فيما يستغرق السفر بالطائرة نحو ساعة و20 دقيقة. عليه يمكننا اختصار الزمن في التواجد بأمكنة كانت الرحلة إليها تتطلب ساعات أطول. جميعنا يعرف قبل قرن أوقرنين من الزمان لم يكن التنقل بهذه السرعة والسهولة. رحلة حاج من تمبكتو إلى مكة قد تستغرق أشهراً، ووسيلة التنقل المتاحة حينها السير على الأقدام، أوركوب ناقة أو حصان. وسائل المواصلات اختصرت الوقت لأيام وساعات عبر حافلات النقل والسفن والقطارات وأخيراً الطائرة، أسرع ناقل في العقود الستة الأخيرة. والآن هذا الهايبرلوب سيختزل الزمن المستغرق لأي رحلة بشكل مدهش. من الممكن السفر والعودة في اليوم ذاته في رحلة من وإلى مدينتين في قارتين متباعدتين. تحولات واقع الزمن في حياتنا يجب أن ترافقها تحولات في تقنية وأساليب الكتابة. التنقل في المشاهد مع التركيز على نقلة الزمن السريعة؛ تحديداً في السرد؛ تلزم أن تتوافق مع إحساسنا الداخلي والفعلي مع هذا الوجه الجديد في الحركة. «امتطى شخص ناقته من مكة إلى تومبكتو قبل مئة عام»، يلتزم السرد بالوقوف عند تفاصيل لن تكون مماثلة، إذا ما سافر الشخص ذاته قبل خمسين عاماً بواسطة باخرة أو حافلة بين نقطتي التنقل، وهما المدينتان المذكورتان. ولنر الرحلة ذاتها لذات للشخص نفسه في عصرنا الحاضر بواسطة ناقل جوي. حتماً ستكون التفاصيل مغايرة من حيث الوصف في الرحلتين السابقتين. أما في المستقبل، إن توفر الهايبرلوب أو أي ناقل موازٍ سيأتي السرد الوصفي حاملاً لأجواء جديدة تماماً. ما يهمنا هنا عقلية المتلقي للسرد، وتماشيها مع كل نمط عبر تفاصيل كل حكاية للرحلات المذكورة. سافر البطل من مكة إلى تمبكتو، وأمضى هناك أياماً أو شهوراً. لو انتقلنا للقادم مستقبلاً بجديده من وسائل تنقل، لربما أمضى البطل الصباح في مكة والظهيرة في تمبكتو وعصراً عاد إلى مكة. ليس هذا من الخيال العلمي، بل من معطيات الواقع حينها. «في حوار تلفزيزني سُجل في مطلع السبعينات من القرن الماضي أعيد بثه في حقبة التسعينات. مذيع يتحدث مع رجل مسن يمتهن الحدادة يقطن في إحدى ضواحي المدينة على ساحل الخليج العربي. يرفض استخدام الكهرباء، ويصر على أن يعيش حياته كما عهدها منذ صغره. حاول أبناؤه أن يسكن معهم في المدينة ولكنه رفض. سأله المذيع أن كان يعلم بأن الإنسان قد وصل القمر. رد الرجل بإستهجان: «لا، لا أصدق هذه مجرد تخاريف». إبتسم المذيع وانتهى المشهد.» الفقرة السابقة تعكس مشهداً قد ننظر إليه الآن مبتسمين تعجباً أو اعجاباً أو استنكاراً. في كل الأحوال ردود الأفعال هذه مقبولة لأي سبب كان: الحنين إلى الماضي، بساطة الرجل العجوز، دماثة المذيع الشاب، طفرة الحضارة وما حملته للمنطقة في زمن قياسي ودرجة استيعاب هذه النقلة أو رفضها، عمق الفكرة وإختصار الكلمات، التصوير في موقع إقامة العجوز وعرض تسجيل الصورة باللونين المتوافرين حينها، الأبيض والأسود. سأتوقف هنا عند المادة المسجلة، وكيفية حفظها للحظة وإعادة بثها بعد عقود من الزمان. كنه المادة موضوع دسم للبحث والعرض والنقاش، وربما منه ينسج رواية وربما مسلسل تلفزيزني أو فيلم سينمائي. تجاوزاً فلنقل إن هذا الحدث/ المشهد اختزل/ عُلّب بتفاصيله بشكل يمكن إعادة تدويره في توقيت زماني ومكاني آخر. مُلاحظة عزيزي القارئ: هذا المشهد الذي وصفته حقيقي، وليس من نسج خيالي. البومات الصور تحوي لحظات مؤرخة بتفاصيل على احداثيات تتجاوز الشخوص. حيث تباع في مزادات عالمية صور لشخصيات معروفة، أو مجهولة بمئات الألوف. السبب ببساطة أن الزمن مختزل هناك بشكل يخترق المستقبل بوجوده في حيثيات من الممكن أن يدركها العقل ويستشعرها وكأنه عاصرها تماماً. رحلة مسبار فضائي استغرقت أكثر من 9 سنوات قطع خلالها 3 مليارات من الأميال ليقترب من الكوكب القزم، كما سمي، وهو كوكب بلوتو ضمن المجموعة الشمسية. كما ذُكر في الأخبار المتناقلة منذ يومين من الآن فإن المسبار الذي يعمل بالطاقة النووية، اقترب بمسافة 7700 ميل من بلوتو، بينما كان يتحرك بسرعة 31 ألف ميل في الساعة. واحتاجت إشارة تأكيد اقتراب المسبار من بلوتو لنحو 13 ساعة، لكي تصل إلى مركز التحكم بمهمة المسبار المسمى «نيو هورايزونز»، وموقعه في معمل الفيزياء التطبيقية بجامعة جون هوبكنز في بالتيمور بأميركا. واعتبر المدير المساعد في قسم علوم «ناسا» جون غرانسفيلد اقتراب المسبار من بلوتو «علامة فارقة في تاريخ البشرية». في اليوم ذاته نقلت وسائل الصحافة والإعلام خبراً علمياً آخر: قال علماء في هذا اليوم إن المعلومات المستقاة من مصادم الهدرونات الكبير تبرهن على وجود جسيمات تعرف باسم الكواركات الخماسية. الأمر الذي يفك شفرة لغز مضى عليه 50 عاما بشأن الوحدات البنائية للمادة. لوحة الموناليزا صاحبة الابتسامة الآسرة من انجازات المبدع الليوناردو دافنشي. استغرقه رسمها من العام 1803-1810. خمسة أعوام من التأمل والتدقيق والرسم والتلوين. اللطيف أن السيدة الإيطالية صاحبة اللوحة وتدعى مادونا ليزا دي أنتونيو ماريا جيرارديني لم تتغير قسماتها طوال تلك الأعوام على ما يبدو. اي لم تحتج إلى عمليات جراحية بلاستيكية أو حقن بوتكس لتجدد نضارة وجهها كما يحدث في عصرنا الآن. لم الرجوع بالزمن إلى الوراء؟ أهو استخدام مجازي؟ فعلي؟ إختزال اللحظات المهمة في صورة أو لوحة أو تسجيل فيديو أو كلمة مكتوبة، أيتم لأجل العلم، لأجل الجمال، لأجل التاريخ؟ اياً كان الدافع يبقى أن هناك مباراة مع الزمن، ومحاولة قطف أثمن أحداثه، وليس هذا فحسب بل بتجاوز كل مالدينا من وقت قافزين لما هو آتٍ، كما في روايات وقصص أفلام الفضاء والأفلام العلمية والغرائبية عن آلات الزمن والمستقبليات التي يمكننا التنقل إليها. ليس هذا فحسب بنظرة إلى الإعلانات التجارية الموجهة عاملة على شدنا كمستهلكين بشعارات: فلتكن الأول في التاريخ الذي يستخدم/ يفعل.... في خضم تفاصيل حياتنا اليومية نمر بأخبار كهذه ككتاب أو متلقين. مجملاً هناك صور وأوجه جديدة ومتجددة للزمن لم يعرفها أجيال من قبلنا، كما من المتوقع أن تأتي الأجيال التالية لنا بمفاهيم جديدة ترى بها الزمن. في مساق تطوير المهارات الذاتية ثمة مادة تدرس بعنوان فن إدارة الوقت/الزمن. في الدقائق الأولى أفتتح الحوار مع الحضور بسؤال «ما تعريفكم للزمن/الوقت؟» تتفاوت الإجابات. افضلها مطلقاً لنا ككائنات حية أجدها في تعريف أن الزمن هو الحياة. ومن ثم علينا تقسيم مهامنا بشكل يمكننا أن ننجز الأفضل، والأكثر في أقل مدة زمنية وهو ما يسمى برفع كفاءة وجودة أداء العمل، ومن ثم الاستمتاع بحياتنا بأقل ضغوط ممكنة. إذا جملة «ليس لدي وقت» تبقى جملة كاذبة يجب علينا عدم استخدامها. فقط علينا أن نقول: «لدينا وقت/حياة ولكن نفتقد مهارة الإدارة بشكل فعال». تتباين الأهداف في دراسة الزمن وتعريفه وكذلك الكتابة عنه وبالتالي تتعدد الآراء، إلا أن الحقيقة أمامنا: هذا هو واقع الحال. الزمن له أوجه عدة قد ندرك بعضها، وقد نكتشفها بمجرد الصدفة أو السعي، وتبقى هناك أوجه عدة قد يأتي بها المستقبل قد ندركها في حينه. في كل الأحوال العقول السوية والمجردة أصبحت تمتلك الوعي لإدراك ذلك، والتفاعل معه بشكل إيجابي. ومن يغالط هنا سوف يفوته ركبٌ مهم يتعلق بالحضارة البشرية في هذا الكون الفسيح. تحتم هذه المرحلة المهمة من التطور الحضاري الإنتباه الى أن البيئة التي تجمع الكاتب والمتلقي لهذه المفاهيم والأوجه وأبعادها واحدة. أن استغرق الكاتب في عوالم يتحدث فيها بتفاصيل منغلقة على مفاهيم بالية لا يلمسها القارئ، ولا تغريه للمتابعة بكل تأكيد سيفقد الرابط بينه وبين المتلقي.عليه.. هناك مهارة أساسية على الكاتب أن يتسم بها في هذا الشأن، وهي استيعاب أوجه الزمن. ليس من ناحية فكرية وفلسفية فقط بل من نواحٍ إبداعية يربط فيها بين الموروثات الثقافية وتأثيرها في حضارة الإنسان في العصر الذي يعيشه والتي تليه. وهذه مهارة ممكنة وتختصر له الكثير من الجهد والوقت. وتأثير ذلك سيبدو جلياً في صيغة إيصال المعلومة، استخدام المفردة، التنق ل بين المشاهد، توالي الأحداث. كل ذلك يدعونا إلى إستخدام أساليب مبتكرة في السرد، ومواضيع جديدة تتواجد في عوالمنا وحياتنا الآن، تنبئ بكثير قادم. لا يعني ذلك أبداً الانسلاخ عن الماضي أو التنكر للثقافات المحلية، بل على العكس تماماً.هذه دعوة صريحة إلى سبر أغوار كنوزنا المحلية بأدوات إبداعية جديدة بمنظورها العلمي والعملي، وبعقليات متطورة تخرج الأفضل من نتاج كل كاتب على حده وفي مجاله. عليه يُنتظر الكثير من كتابنا المخضرمين والأكثر من الأجيال الحديثة في الكتابة. بكل تأكيد الثمرة المرجوة، نهضة حقيقية، بل تاريخ جديد ينقل الرواية والقصة والقصيدة وكل ما يتناوله الكاتب العربي، بشمولية تتخطى الحدود والخرائط. كل هذا التضافر سيعكس واجهة تنافسية وتميزاً يحسب للعربية ليس فقط في حيز الثقافة المحلية، بل في الحضارة الكونية.