إشارة إلى ما تناوله الكاتب الأستاذ محمد المالكي في العدد رقم (15515) الصادر في 22 مارس (آذار) 2015م تحت عنوان: (مشاهدات من التجربة الفنلندية في التعليم).. تحدث في مضمون مقالته الرصينة عن نظام التعليم في المجتمع الفنلندي الذي صنف كواحد من أفضل الأنظمة التعليمية في العالم في المهارات المعرفية والتحصيل العلمي.. مقترحاً الاستئناس بهذه التجربة الرائدة... إلخ. - وتعليقاً على هذا الموضوع الحيوي بأبعاده التربوية والاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية.. أقول من نافلة القول: قبل ما ينيف عن أربعة عقود زمنية كانت جمهورية فنلندا تعد من أفقر البلدان الأوروبية بعد أن خرجت من ويلات وآهات ومآسي الحرب العالمية الثانية ودمارها.. غير قادرة على الوقوف على قدميها (اقتصادياً) في الوقت الذي كانت تتلقى فيه المساعدات والإغاثة من دول الجوار في حقبة كانت تسمى حقبة «الوهن الاقتصادي» الذي اجتاح بعض الدول الأوروبية, ولم تسلم من غول المجاعة ومرارة الفقر.!! وأمام هذه الأزمة الاقتصادية الحالكة وإرهاصاتها.. لم تجد هذه الدولة الأسكندنافية الباردة (فنلندا) حلاً إستراتيجياً وخياراً ناجعاً للنهوض بالمجتمع وعلاج مفاصله من الأوجاع المعيشية والمثالب الاقتصادية.. إلا بالاعتماد على قاطرة التقدم وحصان التطور, وذراع التنمية (التعليم), والنهوض بقالب صناعة العقول المبدعة والأدمغة المنتجة، وتحدياً في عقد الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت, فكانت نقطة الانطلاقة النهضوية من ثلاث ركائز أساسية هي: أولاً: إعادة تنظيم وصياغة النظام المدرسي في مراحله الأنثي عشر بحيث تقدم كل المدارس نفس النظام التعليمي ومقرراته للطلاب.. فلا فرق بين التعليم الخاص والتعليم الحكومي وكل مدرسة تخضع للنظام العام وتتساوى في المعايير والجودة.. فضلاً عن توفر البيئة المدرسية الملائمة والمجهزة تقنياً واتصالياً. وثانياً: تبني فلسفة فريدة عندما يتعلق الأمر بنوعية النظام التعليمي.. ويسمى (نظام التعليم الحواري).. وهذا الاتجاه التربوي التعليمي الحضاري الذي صاغ نظريته رائد الفكر التربوي البرازيلي باولو فريري (1921-1997).. طبق بمنهجيته العصرية ومنطلقاته التربوية في المجتمع الفنلندي وهو نظام يتناول فيه المعلم والمتعلم أدوراهما الإيجابية داخل النسيج المدرسي في إطار عملية التفاعل الاجتماعي، وترسيخ أسس التربية الحوارية, وهذا النظام العصري.. لاشك أنه يساهم في تنمية روح الاستقلالية لدي الطالب ويشجع على بناء حب التساؤل وممارسة التفكير النقدي والإبداعي, واكتساب الكثير من المهارات العقلية وتوسيع آفاقها, وتعميق الوعي التربوي, والقدرة على حل المشكلات, والتخلص من الجمود العقلي, وهذا ما أثبتته الأبحاث التربوية والدراسات العلمية المتخصصة, بعكس النظام (التعليمي التلقيني) أو الببغائي.. أو ما سماه العالم التربوي فريري (التعليم البنكي) الذي اشتهرت به دول العالم العربي وهو نظام تقليدي لا يمكن أن يصنع عقولاً مبدعة, واكتشاف القدرات الكامنة للمتعلمين, حيث يقوم المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات (سابقة التجهيز)..! في أدمغة المتلقين والذي يقتصر دورهم على التلقي السلبي, أو الحفظ الببغائي.. لتلك الإيداعات, وبالتالي فإن عملية التعليم التلقيني أو البنكي تساهم في صناعة قوالب مكررة من البشر مصابة بالجمود العقلي والهشاشة الفكرية..!! لا تسعى للتغيير ومقاومة اتجاهاته البنائية, وهنا -مع الأسف- تتضح أكبر معوقات تطور العملية التعليمية التربوية وضعف مخرجاتها في معظم المجتمعات العربية وفي مجتمعنا السعودي تحديداً.. المتمثلة في نوعية النظام التعليمي التقليدي وإرثه المتراكم. وثالثاً: الاهتمام بالعنصر الأهم في بيئة التعليم وهو (المعلم).. فهناك بون شاسع وفرق واضح بين حال المعلم الفنلندي.. وبين حال المعلم العربي..!! فالمعلم الفنلندي وضعت الحكومة الآمال العريضة عليه في رحلة (البناء الاجتماعي) ليكون عنصراً فاعلاً ورقماً هاماً في خارطة الحركة التنموية وتقدمها الحضاري والمعرفي فكفلت له «الحقوق المادية» من رواتب مجزية.. توازي رواتب الأطباء والمحامين.. و»الحقوق المهنية» لرفع كفاءته وتعزيز أدائه المهني.. ومعروف أن المعلمين في (بلد نوكيا) وبالذات في التعليم الدنيا (الأولي) يحملون شهادات عليا (ماجستير)..كما يلتحقون في دورات تدريبية في الصحة النفسية والمهارات التربوية وطرق التدريس الحديثة وأساليبها المتطورة... إلخ؛ هذا فضلاً عن تمكين المعلمين في ظل تميزهم العلمي وكفاءتهم المهنية وحسّهم التربوي.. من الاشتراك في تصميم المناهج الدراسية الخاصة بهم، وصياغة مقرراتها بما يتوافق مع معطيات المرحلة ومتطلباتها العصرية.. ثم «الحقوق المعنوية» التي زادت بشكل كبير خلال العقدين الآخرين حتى باتت (مهنة التدريس) تصنف ضمن أفضل المهن التي تحظى بمكانة اجتماعية رفيعة واحترام شعبي كبير في هذا البلد الاسكندنافي النموذجي. وإمام هذه المعطيات البنائية وتحدياتها الثقافية والاقتصادية.. تحولت (فنلندا) إلى واحدة من أبرز القلاع العلمية والتكنولوجية في العالم.. فبعد أن كان «مجتمع ريعي» يقوم اقتصاده على النشاط الزراعي قبل أكثر من أربعة عقود زمنية.. حققت فنلندا قفزة (جمبازية) في عالم التنمية الشاملة لتصبح بلداً ذا اقتصاد معرفي متقدم.. في فترة قياسية.. بعد أن كان التعليم ومنطلقاته الإستراتيجية نحو بناء الإنسان صناعياً ومعرفياً.. من أهم الركائز في هذا التحول النوعي في الاقتصاد المعرفي.. والمثير للإعجاب كانت فنلندا في السبعينات الميلادية تحتل قاع ترتيب الدول المشاركة في منظمة التعاون الاقتصادية والتنموية الأوروبية واختصارها OECD.. لتنهض على أكتاف جودة التعليم.. وتصافح القمة «معرفياً واقتصادياً وابتكاراً «.. ولا غرابة من ذلك فقد تم تصنيف نظام التعليم الفنلندي ومكوناته الحضارية..كأفضل نظام تعليمي في العالم متقدماً على دول عظمى كأمريكا وبريطانيا وألمانيا وغيرهم,.. نظام عصري -ياسادة -يواكب تحديات العصر ويختصر زمن صناعة العقول المستنيرة.. جعل الطالب الفنلندي عندما ينهي تسعة أعوام دراسية.. يتقن ثلاث لغات بامتياز.. ويعرف كيف يفكر ويبتكر ويحل مشكلاته بوعي وإحساس وإبداع.. علاوة على تفوقه على اقرأنه (عالمياً) في الرياضيات والعلوم ومهارات القراءة. وأخيراً وليس بآخر أضم صوتي لصوت الكاتب القدير الأستاذ محمد المالكي بالاستئناس والاستفادة من التجربة الفنلندية الرائدة في قالبها التعليمي.. فالتعليم هو قاطرة التقدم ومفتاح التنمية الشاملة, وأساس التطور المجتمعي. وقفة سُئلت وزيرة التعليم الفنلندية تولا هاتانين عن سر تطور وتنمية «بلدها الأخضر» في فترة وجيزة.!؟ أجابت: ثلاثة عوامل هي: التعليم.. ثم التعليم.. ثم التعليم.