قبل ما ينيف على خمسة عقود زمنية، كانت جمهورية فنلندا تعد من أفقر البلدان الأوروبية بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية، وتريد الوقوف أمام أزمة اقتصادية حالكة، لم تجد حلاً استراتيجيا وخياراً ناجعاً للنهوض إلا بالاعتماد على قاطرة التقدم وحصان التطور، وذراع التنمية (التعليم)، لصناعة عقول مبدعة وأدمغة منتجة، فكانت نقطة الانطلاقة النهضوية المتوثبة من بوابة التعليم.. ثم التعليم؛ حيث تبنت فنلندا فلسفة تعليمية فريدة، اتجهت بوصلتها إلى ما يسمى (نظام التعليم الحواري)، وهذا الاتجاه التربوي التعليمي الحضاري الذي صاغ نظريته رائد الفكر التربوي البرازيلي باولو فريري (1921-1997)، طبق في المجتمع الفنلندي؛ ليصبح نظام التعليم الفنلندي الأفضل عالمياً. و"التعليم الحواري" هو نظام يتناول فيه المعلم والمتعلم أدوارهما الإيجابية داخل النسيج المدرسي، في إطار عملية التفاعل الاجتماعي، وترسيخ أسس التربية الحوارية، وهذا النظام العصري لا شك يسهم في تنمية روح الاستقلالية لدى الطالب، ويشجع على بناء حب التساؤل وممارسة التفكير النقدي والإبداعي، واكتساب كثير من المهارات العقلية وتوسيع آفاقها، وتعميق الوعي التربوي، والقدرة على حل المشكلات، والتخلص من الجمود العقلي، وهذا ما أثبتته الأبحاث التربوية والدراسات العلمية المتخصصة. ويأتي عكس النظام "التعليمي التلقيني"، الذي اشتهرت به دول العالم العربي، وهو تقليدي لا يمكن أن يصنع عقولاً مبدعة، واكتشاف القدرات الكامنة للمتعلمين، حيث يقوم المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات (سابقة التجهيز) في أدمغة المتلقين، أو الحفظ الببغاوي، وبالتالي فإن هذا التعليم التلقيني يسهم في صناعة قوالب مكررة من البشر، لا تسعى للتغيير ومقاومة اتجاهاته البنائية، مصابة بالجمود العقلي والهشاشة الفكرية! وهنا تتضح أكبر معوقات تطوير العملية التعليمية التربوية، وضعف مخرجاتها في مجتمعنا الفتي، المتمثلة في نوعية نظام تعليمي هو إرث متراكم، فوجود مثل هذه المختبرات المعملية الملائمة، وتوافر المعلمين الأكفاء، والاهتمام بالعلوم الطبيعية والرياضيات لا شك ستختصر زمن ومسافة بناء العقول المستنيرة، واكتشاف قدراتها الابتكارية، وتنمية طاقتها الإبداعية، ساعتها سنرى -بإذن الله- نماذج من العباقرة والمبدعين والمبتكرين من الطلاب السعوديين في المجالات العلمية والمعرفية، التي تمثل أحد أهداف رؤية مملكتنا الحبيبة 2030.