لاشك أن ديوان د. راشد المبارك الموسوم (رسالة إلى ولادة) يعتبر سفرا يدغدغ فيه عواطف قرائه، ويسحرهم بلغة شعره الجياشة الفياضة، ويرحل بهم ليحط بهم الرحال في مكامن كشف الغطاء عن شفرات رموز شعره. والواقع أن شعر د. راشد المبارك صور تتحرك ضمن أطياف الشاهد المقيس من الحالات التى تبهر المتلقي وتدهشه فتجعله يعيش تجربة حية تثير عواطفه ومكامن وجدانه وتوقظ فيه استشعار الشعر وشاعرية الشاعر. كما أن لشعر د. راشد تأثير سحري يجعل شعره ينساب الى عقل القارئ ويتغلغل فى وجدانه وعاطفته معا نتيجة للأداء البارع في التصوير والشعرنة للأحداث والانتقاء الموفق للفظة. فألفاظ شعره تسبح بقارئها ضمن أطياف الماضي والحاضر متجاوزة سقطات الزمان وعجائب المكان وأهواله نحو زمكنة مستقبلية تجديدية مشرقة مليئة بالأمل رغم الألم الذى يكتنفها. فالشعر عند د. راشد المبارك- رحمه الله- جسر للأمل رغم مثبطات الامل وهول محفزات الألم واليأس لحاضر ما مضى وما حضر من الظواهر والأحداث والحالات.وفى الحقيقة أن قراءة متأنية لشعر د. راشد المبارك تنبئ مدى أمله فى أن لا يكون ما استقبل من الزمان وصروفه في شعره مثل ما استدبر من ماضي زمان أمته وحاضرها. إن شعر د. المبارك يعد بلا مبالغة نمطاً متفرداً من أنماط الوجد والحب والعشق والألم والأمل وكل توافقات النفس البشرية وتعارضاتها ومقارباتها أو مفارقاتها. فهو على سبيل المثال إن وصف ماضي الحسن في النواعم من البشر وحاضره فهو يصفه بأسلوب حضاري رفيع يليق بكرامة الناعم الموصوف وحقه في الوجود ويتسق مع مكانته الشاعرية وخلقه التى تتألق إنسانية وتأبى مهاوى الزلل وتحلق بالكلمة الى المعالي والرقى. فيقول: ويخبرنا الدكتور راشد وقد أخذت الحسناء منه كل مأخذ أن الهروب منها مشوب بالرواصد والكمائن التي يستحيل معها المهرب فيقول: وفي موضع آخر من ديوانه وصف الحسناء بدفق ضوء رنقه قبل المغيب انسكاب اللون في الشفق متأثرا بمصطلحات تخصصه الدقيق في آلية الكم التي تصف مسير الضوء من مصدره الى مبتغاه في دفقات غير متصلة الأطياف يطلق على كل وحدة منها كوانتا أي دفقا متقطعا غير متواصل المسيروغير مرتبط فيقول: وقال في قصيدة أخرى من منظومة قصائده في الغزل العفيف وفي وصف الحسن والجمال: متأثرا مرة أخرى في حبكه لهذا البيت وفى غيره الكثير من شعره بمنهجيته العلمية الاستقراء-استدلالية في النظر والتجريب والاستنباط والتعميم التي تقوم على االمجانسة بين النظر كمشاهدة والمنظور كرؤية لسبر مكنوونات الجسيمات النووية التى تكتنف المفاهيم الميكروسكوبية لتخصصه الدقيق فى مجال آلية الكم أو الكوانتم. ولا شك ان هذه المنهجية قد أثرت على النظر والمنظور الذى يرى به الدكتور راشد الحسناوات كما أثرت عليه في رؤيته لدقائق المادة ومكنوناتها النووية. وهذاالأمر في اعتقادي قد أكسب شعرالدكتور راشد تفردا وتميزا على غيره وتوهجا على توهج. ولهذا نجد توهجه يأخذ الدكتور راشد بعيدا ليصف برهة اللقاء بالحسناء بضجة الصمت واحيانا بضجة الشوق المدوي والجوى في مفاصله وقد زرع لحسنائه في كل عضو قلبا ينبض بالحب والعشق حتى تعانق همس الهدب بالهدب قائلا: ولم يتردد شاعرنا الكريم في أن يعترف بأن لبه قد سلب وأن دمه قد استثير وأن قلبه قد استبدت به عواصف من فتون الحسن تغوي ابتهالاته وتغريه وتفجر الرغبة الخرساء فيقول: ولم يكتف الدكتور راشد فى شعره بهمس الحب والغزل ولكنه ضمن شعره صوته الجريء الشجاع المدوي المحترق على مصائب أمته والمتألم والغاضب لها، ومنها في كثير من الأحيان فيهجوها هجاء أمل ورجاء متجاوزا بشعره ماضيا موجعا مريرا نحو مستقبل منير فيقول: ويسقط الدكتور راشد تجربته الإنسانية على شعره فيلبسها ثوب الحكمة والروية لتصبح رمزا ومثلا يستشهد به على أحداث الحياة المثلى من ضمير الإنسان اليقظ المحترق المجروح الغارق فى حرقة دمع بلا سفر وشوق يحي بلا أمل فيقول بصوت مدو يرد له الدمع فى مقلتيه ويبرئ جرح أمته الخفي القاتل: وبعد كل هذا وذاك فشعر الدكتور راشد غني بقاموس بيئي ثري من الألفاظ الرقراقة والعبارات الدافقة الدفيئة المعبرة. فنلمس في شعره قاموسا يحوي ألفاظا من مثل الإشعاع والسحب والغمام والشهب والبروق والصحراء بحرها وقرها وعبارات من مثل «ألوان من الطيف أشرقت»و«السرب قد ضيع السرب» و «الركب قد ضيع الركب» و «سكب اللحن ينهمر» و «وعطش النهر» و «وحنين الضوء أظمأت الظمى». وهذه الالفاظ والعبارات التى شكلت فسيفساء شعر الدكتور راشد لم تكن لتشكل لولا عبقرية شاعرنا وقدراته الفكرية الناضجة ووجدانه الواعي الصادق وحسه المرهف ولغته الرصينة وثقافته الموسوعية. إضافة إلى ذلك فهو يتألم لألم المظلومين والفقراء والبؤساء والمسحوقين والمنكوبين لحد الأرق الذى يقض مضجعه ويبرحه وجعا وألما، ولا يرتاح له بال إلا بعد رفع الظلم والبؤس عنهم.أما سمعتم الدكتور راشد المبارك وهو يصدح « بصوت الأرض الإنساني المدوي قائلا: ومن آخره شعر د. راشد المبارك الذى يعد فى رأيى المتواضع من عيون الشعر العربى هى قصيدة الرثاء التى صاغها- رحمه الله- قبل رحيله عن دنياه. وقد نشرت هذه القصيدة فى جريدتي الجزيرة والرياض بعد أيام قليلة من وفاته. وقد اخترت هنا لكم منها سبعة أبيات تعكس إنسانيته الفذة التى تتألم وتتأرق لحال الفقراء والمساكين والمعوزين وتوضح مدى سروره بما يقوم به من أجل تفريج كربهم دونما أن تدرى يسرا راشد ما أنفقت يمناه فيقول: وأختم مشاركتى بوتر أبيات من قصيدة نظمتها فى الفقيد رحمه الله اخترت لكم منها ما يلي: رحم الله د. راشد المبارك رحمة واسعة وتغشاه بفضله وكرمه وجعل قبره روضة من رياض الجنة وثبته بالقول الثابت وأنزله فى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا و(إنا لله وإنا اليه راجعون). ** ** ** تنويه نُشر في عدد الخميس مقال للدكتور يحيى بن محمد شيخ أبو الخير عن الدكتور راشد المبارك تحت عنوان (رحلة في أعماق الدكتور راشد المبارك)، وكان الدكتور يحيى قد كتبه للثقافية إبان حياة الدكتور راشد - رحمه الله- ونشر في حينه إلا أنه تم إعادة نشره دون التنويه إلى أن المقال كتب في حياة الدكتور راشد، ولذا لزم التنويه. أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبوالخير - عضو المجلس الاستشاري العالمي الأعلى لجامعة الملك سعود - المستشار بمعهد الأمير سلطان لدراسات البيئة والمياه والصحراء