فُجعت الثقافة والفكر وروع الأدب والشعر يوم نعى الناعي الشاعر الكبير والفيلسوف المثير البروفسور راشد المبارك الذي غادر الدنيا مأسوفاً عليه. هو سليل بيت العلم والفضل وغصن من شجرة كبيرة وارفة على مستوى الجزيرة والخليج. تعرفت عليه عبر نظيره وشبيهه بالوجاهة والسماحة والثقافة العالية الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي - رحم الله الجميع -. شهدت ندوة الأحدية بمقرها القديم في حي البديعة كان الجد والتنظيم طابعها وشخصية أبي بسام تسيطر عليها أعجبت بداره المنظمة وإدارته المحكمة وشخصيته الصارمة وثقافته الواسعة. وهكذا يجب في من يتصدى للشأن العام أو الأمر الهام لا كما نشاهد في بعض الجلسات وأكثر الندوات من هزل وثرثرة أو تسطيح ومسخرة. كان رحمه الله واضح الشخصية مستقيم السيرة نظيف السريرة يحمل هم الأمة ويتحمل آلام الناس يفزع ويشفع يتوسط ويزكي يكتب للمسئولين عن حاجات البعض ممن عثرت بهم الحياة أو تقطعت بهم الأسباب فمن لهؤلاء بعده. سعيت مساء الجمعة وكذا مساء السبت أيام العزاء وشهدت في داره بحي الروضة الجموع التي زحفت والموجات التي حضرت وهي تكتم الآهات وتكظم الحسرات وتتبادل العزاء في الكبير الذي غاب جلست بجوار نفر من أخلص أصدقائه وخلانه هما الشاعران الملهمان المتميزان البراء عمر الأميري وأحمد عثمان التويجري وقد ألقى الأخير قصيدة مهد لها بكلمة عبر فيها عما يحسه كل من كان حاضراً في مجلس العزاء. كانت أبيات قصيدته تقاطع بعبارات الاستحسان والدعاء. أعود إلى الفقيد الكبير فماذا أقول وماذا أدع فالحديث عن شخصية وقامة وهامة مثل أبي بسام لا تستطيع أن تلم به في مقال واحد. فلن أقدر أن أختصر التاريخ بسطر أو أطوي البحر في شبر يا الله. إن مجال ذلك كتب التراجم والسِيَرّ. لا مقالاتٍ في الصحف بلا أثر. كان رحمه الله يتمتع بمساحة واسعة من العلاقات والصداقات بداخل المملكة وخارجها ومن واظب على ملازمته أو حضور ندوته وجلسته يلحظ ذلك إنك ترى الصالة على سعتها تغص بالجلاس فهذا زائر من بلاد المغرب العربي وآخر من الهند وثالث من اليمن أو ديار الشام والعراق أو أرض الكنانة وهكذا المنهل العذب كثير الزحام. زرت دمشق منذ سنوات وذات مساء اتجهت مع الزميل الأستاذ حماد السالمي صوب منزل الشاعر الكبير سليمان العيسى في ضاحية بعيدة عن وسط المدينة وحال استقر بنا المجلس سألنا صاحبه كيف أبي بسام وهل ندوة الأحد مستمرة وجعل الحديث عنه فاتحة اللقاء. كان الفقيد راشد كبيراً ويعشق سِيَرَّ الكبار وقد تحدث عنه الكثير منهم نثراً وشعراً من أمثال غازي القصيبي وأحمد الشامي ومحمد الغزالي والبراء الأميري وحيدر الغدير والكثير والجم الغفير فلو جُمعت أحاديثهم عنه لكانت شهادات وتزكيات تذكر الأجيال بنماذج من الرجال لتكون قدوة وأسوة لمن يأتي بعدهم. قلت في بداية هذا المقال إنه غصن من شجرة كبيرة وارفة الظلال كثيرة الرجال ولما زرت إقليم الأحساء العظيم الزيارة التي لا تنسى عام 1401ه بصحبة المرحوم عبدالعزيز الرفاعي أدركت صحة ذلك حيث شهدنا مجالس العلم ورأينا المشائخ والعلماء الكبار من أمثال الشيخ يوسف بن راشد المبارك الذي انتهت إليه زعامة الفقه والفكر والأدب والشعر في ديار هجر وكذلك الشيخ السفير والشاعر الكبير أحمد بن علي المبارك وغيرهما كانت المجالس الواسعة الكبيرة والشخصيات المهذبة الكثيرة تثير الإعجاب وتلفت الأنظار تستقبلك بالترحاب والاستبشار وتودعك بالدعاء والاستغفار فحي الله بلاد هجر وساكنيها. كان الفقيد الماضي صاحب ذوق راقٍ كبير وأسلوب مترفٍ مثير يدل على ذلك حسن استشهاداته وجميل مختاراته والكثير من كتبه ودراساته. كان من أشد المعجبين بشعر شاعر الدنيا الكبير الجهير محمد سليمان الأحمد الملقب (بدوي الجبل) يفضله ويقدمه على غيره من كبار الشعراء الذين انخدع الناس بهم بسبب تضليل الإعلام وغوغائية بعض الأنام. وهكذا الذين من الله عليهم بدقة الملاحظة والنظرة العميقة الفاحصة. وللتدليل على شدة إعجابه وافتتانه بشعر بدوي الجبل هاكم أبيات من قصيدة لراشد المبارك يحيي فيها الشاعر المهجري زكي قنصل يوم زار المملكة بدعوة من وزارة الثقافة وتزكية من الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي واحتفت به الأوساط الثقافية والصوالين الأدبية في جدة والرياض. والأبيات معارضة لقصيدة لبدوي الجبل من نفس الروي والقافية والنفس والنفيس. وهكذا تلتقي الأرواح وتتلاقح الأدواح. هذه مقالة قصيرة أكتبها بعاطفة المحب ماطلت في إعدادها أبتغي ساعة صفاء أو لحظة تجلي فما صادفت الصفاء ولا حضر التجلي. ولما خشيت فوات المناسبة قلت أدفع بها هكذا فالقليل خير من لا شيء وإلا فحق الفقيد الغالي علينا كثير. الصبر يحمد في المواقف كلِّها إلا عليك فإنه مذموم