لن أكتب عن سلمان بن عبدالعزيز شيئا يجهله القارئ، فالملك الصالح، ومنذ زمن مبكر، حطم الأسوار التي تفصل المسؤولين عادة عن الناس، فاقترب منهم واقتربوا منه، فبات العيان أوفى وأكفى من الوصف...، سلمان صديق المواطن، كل منهما يسكن الآخر ويقرأ هواجسه، يعتذر حين لا يستطيع اللقاء به... لا أستطيع تلخيص شخصية الملك سلمان بأفضل من استعارة عبارة قالها أحد المفكرين ذات زمن «رجل يباشر الحياة»... فالوعي بالإنسان، والقراءة والبحث في التاريخ واستلهامه واستشراف المستقبل، هي ذروة مباشرة الحياة، وهي ذروة تجربة سلمان! حين أسس المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل هذا الوطن، كانت الانطلاقة الأولى لعربة التنمية بمفهومها الشامل على هذه الأرض, حاك الملك الراحل بحكمته نسيج الوطن، ليعيد تموضع الإنسان فيه كإنسان وطن لا مدينة ولا منطقة ولا قبيلة، قدم رؤيته لبناء الإنسان والمكان باستلهام العقيدة الإسلامية الصحيحة والثقافة الأصيلة، ليبرز نموذجا فريداً تعاهده الملوك السعوديون ليصبح أيقونة هذه المنطقة من العالم، عقد اجتماعي أصيل يجمع بين الأصالة والمعاصرة والوفاء للأرض وقادتها.. الملوك، سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله -رحمهم الله جميعاً- كان كل منهم يأخذ اللبنة من سابقه ليستكمل البناء دون توقف، فيشهد عصره تحديثا يتناسب مع المرحلة والتحديات التي تواجهها البلاد، فشهدنا في كل مرحلة تنموية تفاعلا ومقاربة مع الأحداث والتحديات بما تستحق، وليس ما شهدناه في عهد الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- من إنشاء الهيئات والتوسع في الاستثمار في رأس المال البشري إلا نموذجا من هذه المسيرة المتواصلة. اليوم، وبعد أن تولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (يحفظه الله) مسؤولية هذه المسيرة، جاءت الأوامر الملكية الأخيرة لتقدم نموذجاً فريداً ليس في استكمال المسيرة فحسب بل تجديد مسارها وإعادة بناء محركاتها، وقد لا يكون ما ظهر منها سوى مقدمة القاطرة التي تشق عباب التحديات... لا أزعم القدرة على استقراء واستشراف تفاصيل هذا النموذج، لكني سأتطرق إلى ثلاثة جوانب أراها اليوم أهم محركات التجديد في تاريخ التنمية الشاملة بالمملكة في زمن يموج بالتحديات ويدفعه التسارع... الأول، إلغاء المجالس واللجان المتنوعة، واستبدالها بمجلسين للشؤون السياسية والأمنية، وآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية، وأرى في ذلك تجديداً حقيقياً لمسار التنمية، ورفع فعالية التنسيق وتوحيد الرؤية الحكومية تجاه عدد من القضايا المتشابكة والمتفاعلة والتي كان دمها مفرقا بين اللجان والمجالس، فلا يكاد يولد قرار إلا ويتعثر بمستجدات لم تكن في الحسبان. ثانيا: قرار دمج التعليم العام بالتعليم العالي، وفي نظري، أنه قرار استراتيجي، ننتطر بفارغ الصبر ما سينتجه على صعيد مخرجات التعليم ومواءمتها لسوق العمل، فالحقيقة، أن سوق العمل كان يعاني وما يزال من إشكالية في كفاءة مخرجات التعليم وتنافسيتها، نتيجة فجوة كبيرة بين التعليمين العام والعالي، كنت قد كتبت مقالا سابقا بعنوان (سعوَدَة الكيف «يا خالداً» التعليم) أخاطب فيه وزيري التعليم والتعليم العالي حينها بضرورة ردم الهوة بين التعليمين، وصياغة رؤية استراتيجية للمواءمة بينها... لكن رؤية الملك سلمان كانت أعجل وأكمل. ثالثا: سيحفظ التاريخ لسلمان بن عبدالعزيز أنه أول من وثق بالشباب ليسنمه مواقع القيادة والمسؤلية على رأس هرم الوزارات والمؤسسات الحكومية، وهو قرار ترجم ثقته (حفظه الله) في استثمار الحكومة في رأس المالي البشري النوعي لعقود طويلة، والحقيقة، أن قراراً بهذا الحجم يعكس قرب الملك سلمان -حفظه الله- من الشباب، ووعيه بدورهم خلال المرحلة القادمة، وهو ما سينعكس إيجاباً على سرعة وفاعلية الأداء.. أخيراً، فإن سلاسة انتقال الحكم، وترتيبه بعد وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يعكس صلابة ووحدة البيت السعودي، ووعيه بالوطن ومسؤوليته، وهو ما يعزز الثقة في مستقبل هذه البلاد وأهلها.. ويمنح الدرس تلو الدرس لمن يراهنون على الوهم في بلد يطاول فيه الواقع قمم الجبال.. فالحمد لله من قبل ومن بعد.