أنت تستطيع أن توحد صوت التلاميذ في طابور الصباح المدرسي ليرددوا ما تملي عليهم.. لأنك بسلطة الإدارة تفرض، وهم يستجيبون..! لكنك حين يكبرون لن تستطيع أن توحد صوتهم؛ لأن ثمة ما نما فيهم من الاسقلالية والذاتية ما يجعلك تلغي طابور الصباح لتستبدله بسلام الالتزام.. وتكوين الالتزام بمعايير النظام، ثم بجعل النظام سلوكاً لا يتحقق إلا بزرع القناعة بمكوناته، حتى يصبح قيمة شعورية تنفذ بتلقائية وهي تندمج بفكر الإنسان حين يكبر، والإنسان حين يعبِّر، والإنسان حين يشعر.. إن القناعات لا تُدرَّس, ومن ثم الالتزام، وإنما تُكوَّن ومن ثم يُمارس، فتنمو شجرتها في الإنسان.. هذا الأمر تحقق في مدرسة الوطن حين غادر أب الوطن عبدالله بن عبدالعزيز ظاهر ثرى الوطن.. عبدالله بن عبدالعزيز لم يفرض حبه، وإنما أصبح حبه فرضاً؛ إذ نمت شجرته اقتناعاً والتزاماً وتعبيراً جمعياً ذلك اليوم الحزين.. فشهق الطفل نحيباً في الشمال وهو في مدارج النمو، يدفعه الحب الذي بُذرت أبجدياته بفعل هذا الملك الإنسان، ودُهشت برفضٍ المسنةُ في أقصى الجنوب على فطرتها حين علمت بأنه غادر ولن يعود، وسهر الرسام في الغرب على جدار المدينة يسأله «وين رايح» لا زلنا لم نرتوِ من وجودك.. بكى القاصي والداني على من نهض بالطريق، ورفق بالمحتاج، وضخ أوردة الفقير، وعزز طموح الناهض، وعمر البناء، وشيد المنجزات، وسأل الحب بالحب، وأعطى الانتباهة بالوعي، وجعل الوطن حركة دؤوبة، وليلاً مشرقاً، ونهاراً جاداً.. أوقف مجاري الفساد، وعطل نوايا الأحقاد، وكان عبدالله بن عبدالعزيز رجل الخير، لوطن الخير.. عشر سنوات بكل ملايين النفوس التي عمرها حباً وولاء.. ستبقى تذكره ولن تنساه بكل من فيها, وما فيها.. كان أباً حنوناً، وقائداً طموحاً، وباذلاً لوطنه بصدق نية، وصفاء طوية، وإرادة أودعها في الصدور، وعززها بالسؤال «لا تنسوني من دعائكم».. ولن ينساه أحد، ولن يطويه ذكر.. سيذكره الجدار، والطريق, والمشفى، والمدرسة, والمنهج، والخطة, والاستثمار, والتطوير، والحقوق، والعدل، والضمان, والتكافل, والبساطة, والتواضع، والمسجد، والدرع, والسلام.. وكل كلمة طيبة.. والمرأة, والرجل, والطفل، الصحيح، والمريض، والدارس، والباحث.. وستفرضك أيها الراحل الأب كل القلوب نشيدَها في كل بيت، ومنزل، ولسان، وذاكرة.. فقد كنت أنت شخصَ إنسانٍ تفرَّد بطيبته، وطموحه.. وتميز بعطائه وصدقه بكل ما حققته من نقلات في عصب الوطن.. رحمك الله رحمة الأبرار أيها العابر الباصم.. ولن تخذلك أدعية المحبين.. لن تغفلك سطور المؤرخين.. ولن تُفرض على اللسان كنشيد طابور الصباح؛ لأنك النشيد الذي لا يغادر تاريخ هذا الوطن.. اللهم أسكنه فسيح جنانك.. وأعلى درجات فردوسك ونعيمه.. اللهم آمين. (دونت هذه المرثية الجمعة 3-4-1436 الموافق 23-1-2015)