عندما غنت أمي.. عرفتها كل عروق الياسمين ورددت معها أناشيد الغرباء، عندما غنت أمي حلقت في سماء الصمت النبيذي بياضا وتلاشت ككل الغيمات البريئة.. أمي... حكاية خرجت من رحم الريح من منحدرات منفى الليل... إلى مواسم الحنين.. إلى شتاء نسيه الوقت مع مفردات الاغتراب وسافر زبدا مع أغنيات الياسمين الخجولة هاربا إلى البحر إلى شواطئه ونوارسه. سافر البياض ينبت في صحراء من الثلج ليوقظ فيها مواسم للذاكرة أمي حكاية غردت خارج السرب.. غابت عن موج الطيور كانت العصافير حينها ترسم لوحات شجر اللوز في السماء.. وأمي وبياضها يغيب رويدا رويدا في خريطة أخرى لا تعرف البرتقال وكروم العنب.. ترقب الغرباء وهم يلتفون على أغصان الذكريات ويحركون ملح البحار ومراكب الحنين وتصمت مع أبجديات النسيان. في هذه المرة لم تعرف كيف تقف؟ كما اعتادتها النواصي هذه المرة تعب الوقوف وهي تنتظر بقايا انتصار وأناشيد وحروف محفورة على شجرة التين. أمي.. تربت في أحضان وطن لم يمهلها الوقت لتعيش قطنه ونشيده.. لم تعرف كيف تقف بعد أن سرقت الريح قدميها ودثارها وخنقت ما بقي من عبرات... كيف يمكن أن تشفى أمي من الأمنيات؟ وكيف لا تستيقظ على صوت العتمة، وهي تفيض من كؤوس هذا الليل.. وكيف لا يغص الكلام عندما يتذكرها الغائبون عبر مسافات لا تدركها الأشياء.. عندما يتذكرها الحلم.. ظلت أمي تغرد خارج أسراب الوطن وحيده تبني أعشاشها في السماء وهي ترقب عناوين الفجر.. وحيدة تنتظر أن تتذكرها الطيور العائدة إلى بيت لا وطن فيه ولا أهل... لا تتذكر سوى لفتات الروح خلف بوابات الغياب نحو ياسمين المنازل وأغنيات الشوارع والبرتقال.. سنوات وأمي تقول للصبح إنها منفية تحت هذا السقف وهذا القلب منفيا في.. وهذه الطرقات جاءت ولن تعود. وظلت أمي معلقة على بوابات السكوت والانتظار ونواح نايات الليل.. كل ما في هذه الروح يوجعها كل فوهات الوقت توجع.. كل ما في هذا الوطن يوجع كل ما في أيلول يوجع.. قطع النسيان نائمة على الجدران بلا مواعيد.. كل ما في هذا العشب مر.. وهذه الطريق إلى السماء مليئة بالنيازك مليئة بالفارق بين المنفى والوطن بين أختام جوازات السفر.. والمستحيل. غنت أمي لبقايا بياض الياسمين لأحجار الطرقات لبلدة عتيقة غابت مع الغروب مع رحيل الظل.. صارت أمي.. سجينة لكراسي الانتظار تحجز في كل يوم ألف مقعد في سجن الترقب.. وهي تحمل رزمة مفاتيحها ذكرياتها أوجاعها ضحكاتها تواريخ الغياب عادت الطيور والخيول إلى حلم من سفر... عاد الطريق ولم تعد أمي.. فلا ضوء يقود إلى الطريق ولا قدمان.. غابت أصابعها بقايا خطواتها تعلقت بأشجار الطرقات غابت مع غياب النهايات السعيدة.. مع تشابه أيام الاغتراب وأكواب الحنين ووسائد الغياب مع أحزان أيلول.. أحلام أمي.. تقطف بياضها من أنامل جاردينيا تمر مع سرب حمام وقمر أبيض يشرع في الليل مواسم الرخام وأمي لا تريد من الزمن الأخر سوى نوافذ من أغاني العائدين وأن تستعيد من الفجر قلبها.. لا تريد سوى بساتين من شالات الشتاء.. أو ممر عبر ساحات برتقال الهادئة.. لا تريد سوى أن تحتسى من دقات الساعة ليمونها ونعناعها سوى أن تسكن وجه الشمس لتسطع في بلد بعيدة لا يصل إليها القطار...