الربيع هو أجمل الفصول بالنسبة لي, فأنا أشعر بالحياة تماماً، لأنني أحب النقاء, أحب السماء الصافية الزرقاء, ربما الحاجة الملحة جبرَتني على الاتصاف بصفات لم تكن من صفاتي لو لم أكن..! فقيراً. أحب الجلوس على العشب الأخضر لأبتهج بالرطوبة وتفتح الأزهار, أحب هذا الفصل اللطيف بعد قسوة الشتاء, أعشق رائحة الشجر، فقد أوهنت أنفي رائحة القذر من النفايات والبقايا التي أعبق بجانبها, أترنم لسماع سقسقة الطيور وزقزقتها, أعشق الطير والحيوان والألوان. لكن تُلَوّث الربيع رائحة تلك المأكولات الشهية التي تنبعث من ذلك المطعم الذي أجلس بجانبه ما بين الحين والآخر, أملاً بأن يفيض علي أحد المارة مما أفاض عليه الله من خيراته, فالطعام الذي أشتم رائحته لا أستطيع أخذ جزء منه إلا بعد الطلب مراراً وتكراراً قد أودت بي رائحة الطعام إلى التعب وأنهكت أضلعي, وينقضي الربيع وأنا في هم ذريع أتجول هنا وهناك بحثاً عن مهتم لأمري المُريع. وفي لجة الصيف أسعى ما بين البقائل وبجانب أسوار الحدائق باحثاً عن قوت يومي, فغالباً ما أحظى بشيء يسير أحمد الله عليه, أشعر بحرقة في أجزاء جسدي التي لا تجد ما تختبئ خلفه من حرارة تلك الشمس الجهورية, بينما جهيرها قد حال بيني وبين لوحة البشرية من جالس وقائم وبائع ومتجول, تحت حرارة الشمس; أعاني كثيراً فأنا لا أمتلك رفاهية, مكيف للهواء أو أدنى شيء ممكن أن يمتلكه الفقراء. وفي المساء تُقْلق غفوة أمعائي رائحة الشواء, وسائر روائح الطعام الزكية ويرق دمعي عندما يُرمى ببقايا الطعام التي تكفي لإشباع أكبر المدن الفقيرة فأثب لأخذ ما يكفيني بعد أن أهجعتني شدة الجوع, وأنا على ذلك الرصيف لا آبه بالمارة من شيوخ وأطفال ورجال ونساء, ولا آبه بالقوارص فأنا محتاج فقير ولا يحنو علي سوى أناس من الطبقات المتوسطة, من إذا منحي الشيء الكثير منحي خمسة ريالات وربما عشرة إلى أن تصل إلى الخمسين ريالاً، حيث إنها لا تكفي لمأوى أسكن فيه بعيداً عن أنظار المارة الذين لا يأبهون بمن افترش يبوسة الأرض والتحف تقلبات الطقس. ففي الخريف يقلقني تساقط الأوراق المخيف من رؤوس الأشجار حتى تصبح عراة كبعض المجانين عندما لا يفقهون ما يفعلون, شدة المطر تشعرني بالخطر من الغرق بنهر مجنون, تحت تلك السماء الكالحة وبرودة الطقس التي تباغتني ما بين الحين والآخر ويمضي الخريف جنوناً في جنون. حتى إذا جاء الشتاء, ظللت أقاسي البرد وأداري رجفة أضلعي خلف باب لا يحجب سوى شيء ضئيل من نسمات الهواء, أود القليل من الغذاء أريد شيئا من رداء وتوسلات, وتوسلات ومضى الشتاء بلا كساء. تلك حياة بعض الفقراء كما أتصورها.