مسؤولية الكلمة في الإعلام مقروءاً أو مسموعاً أو مشاهداً، لا يمكن لأحدٍ أن يشك في مدى خطورتها وتأثيرها متى ركبت موجات الأثير، وصافحت آذان متلقيها إن خيراً فخير وإن شراً - والعياذ بالله - فعواقبها وخيمة. لكن بعضاً ممن اقتحموا مجال الإعلام الرياضي أو أقحموا فيه قد غاب عن مفاهيمهم القاصرة عِظم هذه الأهمية، وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، إما لأن من يتولى أمر هذه البرامج ليس أهلاً للمسؤولية أو أنه يديرها على طريقة (خالف تُذكر) . من قدّر له أن يتابع البرامج التلفزيونية الرياضية الأجنبية على تنوعها، قلّ أن يلاحظ خروجاً عن النص الاحترافي الذي يكفل لكلا الطرفين المتنافسين حقه في النقد الموضوعي، بعيداً عن التجريح والتشفّي والتهكم والتحيّز، وما إلى ذلك من المصطلحات التي لا تمت لمفهوم الرياضة بصلة البتّة. الاحترام المتبادل لوجهات النظر - وإن حصل اختلاف فهو لا يفسد للود قضية كما يقال -، هو ديدن هذه المقابلات والتحليلات. في المقابل انشغلت بل تخصصت بعض القنوات والبرامج لدينا في التشجيع - ضمناً أو صراحة - على الخروج عن السمت الرياضي والخلق الرزين، وضبط الأعصاب، وانصب تركيزها على إذكاء التعصب وتأجيج الانفعالات! العقلاء حتى من خارج الوسط الرياضي يمجُون ما يحصل من تشجيع غير منضبط ويحسبون أنها تصرفات فردية هوجاء فحسب - وهي كذلك - لكنهم يجهلون أنها تراكمات مستهجنة وراءها ما وراءها !! إنّ التطرف في التعاطي الإعلامي بأساليب التأجيج والتهييج والترويج، أفرز مؤخراً آراء مغالية بلغت حد التمني علناً أن لا يحقق ممثل الوطن الهلال السعودي فوزاً أمام منافسه الفريق الأسترالي، في وضع بلغ حد الشماتة. وألقى هذا الجفاء وهذا التصعيد وهذه السطحية في المعالجة، بظلاله على الحضور الجماهيري لمساندة المنتخب الوطني في دورة الخليج في نسختها ال 22 التي أقيمت في الرياض مؤخراً. فهل بعد عدم التفاعل هذا من سلبية ؟! أولئك المؤججون المهرجون موهومون بأن ما يصرحون به هو من باب حرية التعبير عن الرأي, حتى لو كان ذلكم الاختلاف يفضي إلى جدل أجوف لا يحقق مصلحة عامة. المهم عندهم أن تبقى الأجواء ساخنة ومشحونة ليظلوا - بسذاجة متناهية في السخف - في الصورة وتحت بريق الأضواء ! يحلو للبعض أن يسميه فساداً - وهو كذلك -، ويطالب آخرون بأن تفعل أنظمة وقوانين رادعة وصارمة تجنب المجتمع المسلم ويلاته وشروره. ولأن الأمن على العقول لا يقل أهمية عن الأمن على الأرواح والأموال، التي يؤكد الإسلام على صيانتها وحفظها ومنها الأعراض, رأيت من واجبي أن أنبه من واقع تجربتي الإعلامية المتواضعة على أمر قد لا يخفى على كثيرين .. إنه تضمين بعض العبارات المستهجنة والمتحيّزة لطرف دون طرف خلال برامج حوارية رياضية الهدف منها الكسب المادي لا غير, بدعوى كثافة المتابعين - الضحايا - من الشباب !! الوضع الحالي لهذه النوعية من البرامج عندنا، رغم أنها تدور حول مجال يفترض أن تسمو فيه الأخلاق والأخوة بروح رياضية كما يحلو للبعض أن ينعتها، إلا أن الأمور في معظمها بخلاف ذلك. الحال لا يسر. جُعل من هذه الأنشطة ميداناً رحباً للتشكيك وإثارة النعرات والتدخل في كل صغيرة وكبيرة تخص الأندية بطرق فجة لا تعرف للذوق معنى، وكأن الفريق - أيّ فريق - قد وكلهم كمحامين في الدفاع المستميت عنه فوق كل أرض وتحت كل سماء، فائزاً كان أو مهزوماً. تتحفك هذه البرامج، إضافة إلى مقدميها الأشاوس، بنخب حصرية تتبع ألوان الأندية جاهزة للنقاش حول كل شيء .. أفضل طرق الإدارة الحديثة .. مدارس التدريب ومناهجها.. التحكيم وخفاياه القانونية .. المعنى الحقيقي للاحتراف الكروي، حتى لربما المشاركة الفعلية بدلاً من بعض اللاعبين لو طلب منهم ذلك، لاستعراض بعض المهارات في التهديف والمراوغة، مع أن ما يحتاجونه هم فعلياً هو: (انضباط تكتيكي) يلجمهم ويريح الأسماع والأبصار من جعجعتهم وتدخلهم في ما لا شأن لهم به. أصحاب الفكر المتزن الهادئ والرزين، وأصحاب النقد الهادف البنّاء، لا مكان لهم في هذه النوعية من البرامج، لأنهم ببساطة يُعتبرون خارج «حسابات» القائمين على هذه الجدالات الغوغائية. الأهم أيضاً، أن هؤلاء المحترمين أنفسهم لا يقبلون بالزج هكذا بسمعتهم وتاريخهم، حتى لا يسقطوا من أعين محبيهم سقوطاً لا تقوم لهم به بعده قائمة. ترك هذه «الطامّة» الإعلامية والظاهرة النشاز تصول وتجول في فضائنا دون حسيب أو رقيب، يُعَد شرخاً في التركيبة أو البنية الاجتماعية المؤسسة على مبادئ إسلامية سامية وأخلاق فاضلة، ينذر بما هو أعظم خطراً إن ترك الحبل على الغارب هكذا سبهللاً دون علاج ناجع. كيف لا يكون كذلك وجميعنا يعلم مدى تعلق وولع الشباب بالرياضة عموماً وبرامجها المتعددة على وجه الخصوص ؟! كيف لا يكون كذلك وهي تتعامل مع شباب أغرار يتلقون هذه «السموم في العسل» على هيئة نكات يتناقلونها ويتندرون بمعظم ما يرد فيها من تعليقات ساذجة، أو تهكمات تزدري بفرد أو جماعة عبر هذه الوسائل الآنية والمباشرة. يقول الله عزّ وجلّ: وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانَِ (11) سورة الحجرات. الحث على الكراهية وممارسة العنصرية عبر الغمز واللمز في التصريحات ضمناً وصراحة في المجال الرياضي، تجاوز حدود المدرجات لينتشر انتشار النار في الهشيم، مع تطور وسائل التواصل «ومعظم النار من مستصغر الشرر» . إن وقفة صادقة مع النفس من هؤلاء المتجرئين على الخلط بين مفهوم النقد لعلاج خلل ما، والتهويل المفتعل لإحداث بلبلة حوله ليقتاتوا من نتائجه غير آبهين بالعواقب الوخيمة الحادثة جراءه, لأنانية وميكيافيلية يعلمون هم قبل غيرهم أنهم يقترفونها. إن موضوع المصلحة الخاصة البحتة، إزاء الأضرار التي تلحق بالمجتمع نتيجة إذكاء العصبية والعنصرية والتنابذ بالألقاب، واضح لكل ذي بصيرة، ويتمثل في حرص أولئك على المبالغة في كم أعداد المشاهدين لديهم للترويج لبرامجهم لدى الممولين. شبابنا يتلقون هذه «المدمرات» لا تلقائياً على شكل جرعات تبدأ بالتذمر فالتهكم فالتعصب ثم تنتهي بالغلو والتطرّف في كل شيء, فالشاب يريد أن يعبر عن ذاته بالطريقة التي أُشربَها عن طريق مثل هذه القنوات «المحاضن»، إنها لا تقل خطورة عن من استدرجوا شيئاً فشيئاً للانخراط في الجماعات التكفيرية والإرهابية. نرى التجاوزات فنسكت مهونين من شأنها ثم تكبر حتى يستعصي علاجها. إنني لا أهوّل الأمور بل أرى الأخطاء وأتوجس من مصدرها . عندما تصل الحال حداً تكون فيه الإثارة ممجوجة ومصطنعة ونتائجها مزيداً من الاحتقان، فلا أجد مبرراً مقنعاً للسكوت عنها البتة. لو أن «كيف ؟» المحيّرة هذه تحولت بقدرة قادر إلى السؤال المنطقي الذي لا مفر منه ألا وهو : كيف نرضى أن ننزل إلى هذا المستوى من الطرح مقابل «حفنة» و»لعاعة» من المكاسب المادية، ونخسر ما هو أهم ؟, فلربما كان التنافس لتقديم الأجدى والأنفع هو الحاصل . لكن كيف «نجني»؟، لا كيف «نبني» ؟, وكيف يُفذلك الحوار لأجل عين الريال والدولار، تأبى إلا أن تكون «لماذا؟» السببية لا تخطر على بال وليس لها أي اعتبار. والأغرب حقيقة أنه حتى القنوات الرسمية لم تسلم من الانجرار وراء هذا الوهم، وهو محاولة الاستحواذ على أعلى نسبة من المشاهدة، رغم ما يكتنف هذا الطريق من تأثيرات سلبية على قيم وأخلاقيات المتلقين من الشباب وصغار السن. بالأمس القريب كان يوجد نماذج من تشجيع الروابط يقودهم: فهد الجبرين «بوبي» وعاطي الموركي سابقاً، وصالح القرني حالياً .. أهازيجهم محفزة وكلماتهم جميلة وراقية ذات معانٍ سامية بتشكيلات رائعة وبديعة، أضفت على جمال اللعبة جمالاً أخاذاً. اليوم رغم التقنيات والبذخ في التجهيز، إلا أن ذلك يضيع معظمه هدراً، بسبب تلكم الآفة النشاز من المنغصات اللارياضية واللامسؤولة التي تنخر في الجسد الواحد للتفريق، وهي أبعد ما تكون عن التجميع . ما نحتاجه هو مواجهة هذه الظواهر كلها بالفكر الراشد السديد لقطع دابرها، لأنها متى استفحلت صعب علاجها. العربي والتهامي والوطني والاتحاد والوحدة والاتفاق والتعاون والخليج والأنصار, كلها مسميات ما أطلقت عبثاً بل ابتُغي تمثل معانيها السامية وتطبيقها على أرض الواقع - داخل المستطيل الأخضر وخارجه -، سلوكاً أخوياً بعيداً عن الشحناء والبغضاء والكراهية كيما يكونوا شباباً يُهل هلالهم نصراً وفتحاً أهلياً يعب عن تلاحمهم وتماسكهم في جو أخوي حاتمي طائي بأخوة إسلامية، تماماً كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.