مدينة صغيرة تطل على المحيط الهادئ. تفتح ذراعيها للبحر، وتباهي على صدرها جبال خضراء . معادلة الساحل والجبل: الحب للغريب، والقوة في وجه المكيدة ! كثير من المدن تشبهها، لكنها لا تمنح الحب للعابر، فقط من تنمو جذوره، قد يرى ما لايراه السائح المتعجل ! 5 يناير من العام 1980م ، في صباح بارد منعش، عانقتني سانتا باربرا لحظة خروجي من الباب الرئيسي للمطار. أحببتها من أول نظرة، ولم تغادر بعد قدمي رصيف المطار. كنت قادما من الرياض، بعيون صحراوية ، وإذ بالجمال الذي أغرق فيه، يعيد ترتيب ذائقتي من جديد. لم أعرف في حياتي سوى الرياض ، وقريتي بمزارعها الصغيرة. لكن هذه المدينة لا تمنح جمالها كاملا إلا إذا دللتها، ووهبتها حواسك الخمس لتذوقها. قضيت سنتي الأولى في جامعتها التي تحمل اسمها، دون أن تكشف لي أياً من أسرارها. قررت أن أغادر السكن الجامعي. وبعد مقابلات عدة ، اخترت مريم جواريز. سيدة ذات أصول مكسيكية. سنواتها الخمسين لا تنبئ بخريف محتمل. قصيرة القوام. لون بشرتها استعارته من صحرائنا. كنت إذا خرجت برفقتها في انحاء المدينة، يظن الناس إنني ابنها. وقد كانت تمارس دور الأمومة معي دون تكلف ، هي التي خرجت من زيجة فاشلة دون أن تحظى بطفل واحد. تعايشت مع مسألة عقمها، لكنها لم تفقد موهبتها في نثر محبتها كل صباح، وفي كل خطوة ، وفي كل مصافحة، وتحية عابرة. أعتدت أن أرسل لأبي بالبريد بداية كل شهر، تسجيلا بصوتي . حيلة تعلمتها من زملاء الدراسة، للتغلب على تكلفة الاتصال الهاتفي. كان أول تسجيل صعبا، أعدت تسجيل الشريط عدة مرات. كنت أبكي بين كل كلمة وأخرى. الشهر الاول في الغربة هو أصعبها. قلت لأبي في الشريط: « وصيتك يابوي بدأت تؤتي أكلها» . كانت مريم تذكرني كل شهر بتسجيل الشريط. لم تنس أمومتها، مع غريب يمنحها هذا الشعور بسعادة بالغة. كنت أقتطع من مكافأة الملحقية مبلغا من المال، لأتصل بأمي نهاية كل شهر. كنت أعلم أنها تتعمد الصمود بمشاعرها، حتى لا تجلب الحزن لقلبي. أحاول أن أتماسك، وأنا ارتشف الشوق في صوتها. كنت ابن أمي كما تقول خالتي، وقد اكتسبت صفاتها، لكنها مؤلمة، مداراة المشاعر. وددت لو بكيت، لو أسمعتها شهقاتي ، لو قلت لها :» يمه .. مشتاق أضمك.. مشتاق لريحة شيلتك .. « لكنني أكتفي بممازحتها بقصص مع زملائي العرب. كانت مريم عيني التي اكتشفت بها جمال سانتا باربرا. تصطحبني صباح كل سبت، في رحلة لمكان جديد. كانت ذاكرتي شاسعة، مثل صحراء، وقاحلة إلا من لون الرمال. اكتسبت ذائقة جديدة بألوان لم أر مثلها من قبل. هذه المدينة تعيش ربيعا دائما، وفي الشتاء يتساقط المطر، ليمنح الطيور والشجر والبشر بهجة البلل، تحت غيمات تترفق بزخاتها. بعد سنتين من الدراسة، *******************************ظننت أن مكامن الدهشة في هذه المدينة قد انتهت. بحت ذلك لمريم . عقدت حاجبيها : « هذه المدينة لن تتوقف عن إبهارك» . كنت أظن أنها غضبة امرأة محبة، لكنها أعدت مفاجأة ذات سبت لا ينسى. وبعد إفطار سريع، انطلقنا بسيارتها لوجهة جديدة. - سألتها : إلى أين ؟ - ابتسمت، مثل من يعد مقلبا لصاحبه : سنذهب لبحيرة كاشوما. - ولكننا زرناها من قبل، ثم أضفت مازحا : أين المفاجأة يا مريم؟ - بدت ابتسامتها أكثر مكرا : سترى ! كنت أرى من بعيد البحيرة، لكنها تقود السيارة في طريق يصعد متجها إلى تلة. قلت لها : «يبدو أنك أضعت الطريق ! « لم تجب إلا بعنادها المعتاد : «سترى» ! استقرت السيارة قريبا من حافة التلة . نزلت مسرعا لأرى المنظر. نهرتني ، وطلبت مساعدتها في حمل أغراض الرحلة. استجبت لها مرغما، كابن بار بأمه. بدأنا في فرش السجادة على العشب، بجانب شجرة عتيقة. كانت قد جهزت شطيرة التونة التي أحبها. اخترت مكاني، مستندا على جذع الشجرة. بدت البحيرة من الأعلى كرسمة في لوحة متخيلة. قلت بدون أن أشعر: - «يا الله الجنة» . - صرخت بي : « بالإنجليزي يا فيصل .. ماذا قلت؟ لم أدر كيف أشرح لها معنى ما قلت. كنت مترددا: - «كنت أقصد ان المنظر رائع جدا» ! ناولتني شطيرة التونة ، وقالت: - « لا تكذب على أمك .. أعرف أنك لا تجيد الكذب.. ترددك كشفك.. أعد علي ما قلته دون تجمل» ؟ تذكرت وصية أبي ، فقلت لها: - «في بلدي ، الناس لا ترى مثل هذا الجمال، وإذا زار الربيع ديارنا قالت الناس: «يا الله الجنة « . نسأل الله الجنة التي أعدها للمؤمنين. بدت مرتبكة. فأعادت التأكيد على قناعتها، وهي الملحدة: - « ولكن هذه المدينة هي الجنة « ! ترفقت بها، وتذكرت إحسانها علي: - « هذه جنة في الأرض .. وهناك جنة أخرى لا تؤمنين بها «! ضحكت وهي تشير إلى حواجبي: - هل رأيت ؟ الآن أنت تقول الصدق .. أعرف ذلك من حواجبك .. إذا كذبت ترتعش للأعلى، كاشفة عن كذبة ما « ! أنهيت شهادة البكالوريوس بتفوق. كنت أود أن أزرع نفسي في تربة مدينة أخرى، وأن أكتشف ذائقة مختلفة، كي تُكتب قصاصة أخرى، وتعلق على جدار الذكريات. اخترت أن أكمل الماجستير في نيويورك، وربما الدكتوراة في مدينة مجهولة. ترددت أياما بلياليها، في مفاتحة الأمر مع مريم. كنت خائفا عليها. ابنها المدلل سيغادرها. وكنت محقا في خوفي. بدوت مترددا وأنا أذكر رحيلي إلى نيويورك. أتذكر أنها كتمت غضبا، يكاد ينفجر في وجهي: - « هل فقدت عقلك؟ تغادر الجنة إلى مدينة الشيطان» ! تنازعتني رغبة الرحيل، وهاجس البقاء معها. لم أقل شيئا. غطتنا غيمة من الكآبة، استمرت ثلاثة أيام، كانت تتسلح بعنادها، لتثنيني عن الرحيل، و لم تدرك أن الرحيل: حياة ابن الصحراء. مرت ثلاثة أسابيع حتى انهار عنادها، لكنها لم تيأس ، فاستعانت بكل صديق وقريب في المدينة، لإقناعي بخطأ قراري. كانت تشعر بيقين رحيلي، لكنها ظلت تتمسك ببصيص من الوهم. ذات ليلة وقبل رحيلي بأسبوع ، كنا نتناول العشاء. خرجنا بعدها إلى الشرفة. قالت ، وقد بدت ضعيفة: - « لا تخبرني بيوم سفرك .. لا تودعني أرجوك.. غادر بهدوء، دون أن أحس بك.. أرجوك يا ابني الذي لم أحظ بمثله في جنتي .. ! كان كل كلام يقال بعد ذلك هو نوع من العبث بمشاعر امرأة فقدت أمومتها فجأة ! قلت لها وأنا أربت على كتفها: - « كما تشائين يا مريم « ! بعد ربع قرن على رحيلي من سانتا باربرا، اختار ابني البكر هذه المدينة، للدراسة بها، رغم معارضتي. كنت أود أن يسلك طريقا جديدا. أن يبتكر حياته بنفسه، أن يستمتع بلذة البدايات الأولى المجهولة. لكنه اختار أن يكمل قصة أبيه. ليلة سفره ، بكيت دون خجل . تذكرت حزن مريم ليلة رحيلي عنها. لا يمكن أن نعرف معاناة البشر حتى نختبر نفس المشاعر. أعدت لابني وصية أبي : «احفظ الله يحفظك».