تمرُّ السوق المالية المحلية بمرحلة تصحيحية للأسعار، بدأت قبل عيد الأضحى بعد أن وصل المؤشر إلى ما فوق 11000 نقطة لأول مرة منذ عام 2008م، وهي السنة التي انفجرت فيها الأزمة المالية العالمية، التي أدت لانهيارات بالأسواق المالية العالمية وأسواق السلع. فقد وصل مؤشر السوق المحلي إلى 4068 نقطة في الربع الأول من عام 2009، بينما هبط سعر النفط من مستوى 147 دولاراً للبرميل إلى ما يقارب 33 دولاراً، بينما فقدت جل أسواق المال العالمية وقتها نحو 50 في المئة من أعلى مستوياتها؛ لأن الهلع كان عاماً وغامضاً بالآثار السلبية المحتملة على الاقتصاد العالمي، إلا أن سرعة تحرك الدول، وخصوصاً المنضوية في مجموعة العشرين، سارعت بعودة الانتعاش للأسواق المالية والسلع؛ فقد التزمت تلك الدول بضخ خمسة تريليونات دولار أمريكي في اقتصادياتها؛ ما أدى لاحتواء الأزمة أولاً، والانطلاق نحو تحقيق التعافي، الذي ظهر بشكل متباين بين الدول. لكن الوضع الحالي للاقتصاد العالمي بات في أهم مرحلة يمر فيها بعد الأزمة؛ إذ تواجه منطقة اليورو واليابان تحديات كبيرة لإعادة النمو لاقتصادياتها، ومعها الصين، التي ترغب بتحفيز النمو عن معدلاته الحالية التي تباطأت في آخر سنة. فقد أوجدت الظروف الحالية للاقتصادات الكبرى الضعيفة حالة من القلق عامة، خوفاً من عدم قدرتها على التعافي بسرعة؛ ما سيعيد التأثيرات السلبية للواجهة من جديد، وقد يخفض من نمو اقتصاد أمريكا مستقبلاً، التي حققت معدلات نمو جيدة مؤخراً، بلغت 3.9 في المئة للربع الأخير، وتعافى دولارها أمام العملات الرئيسية بنسب جيدة، بسبب عوامل أخرى، منها توقف برنامج التيسير الكمي من قِبل الفيدرالي الأمريكي، وضعف اقتصادات أوروبا واليابان اللتين تنويان البدء ببرامج تحفيزية ضخمة لإعادة الزخم لاقتصادياتها. ومع تعهد مجموعة العشرين ببرنامج يرفع النمو الاقتصادي العالمي، يقدَّر أن يُضخَّ من خلاله تريليونا دولار حتى عام 2018م، فإن الصورة باتت واضحة بأن هناك إصراراً على تخطي آخر آثار الأزمة المالية العالمية. وبموجب كل ما ذُكر من جوانب المشهد العام للاقتصاد العالمي، فمن الطبيعي أن يظهر الأثر على سعر النفط؛ لأنه أهم مفاصل النشاط الاقتصادي؛ فبدون الطاقة لا يوجد نمو اقتصادي، وتراخي أو ضعف النمو يخفض الطلب على الطاقة، وأهمها النفط. وبما أن دخول منتجي النفط الصخري كلاعب مؤثر بسوق إمدادات النفط بات واقعاً، فإن آلية العرض والطلب تأثرت لصالح زيادة العرض. وبما أن النمو الاقتصادي العالمي ضعيف، فإن المتوقع تراجع أسعار النفط كنتيجة طبيعية متوقعة، وهو ما نشهده حالياً. وستستمر الأسعار منخفضة إلى أن تتوازن السوق من تلقاء نفسها، سواء بعودة نمو الطلب أو بتخفيض الإنتاج، الذي يتضح أن أوبك ألقت بمسؤولية تخفيضه على المنتجين من خارج أوبك، عندما قررت الإبقاء على حصصها التي تشكل مجتمعة نحو 30 في المئة من إنتاج العالم. ويتضح من خلال هذه المعطيات أن أسعار النفط ستعاود الارتفاع إلى مستوى أفضل قليلاً من المستوى الحالي بعد شهور عدة؛ لتستقر حول 80 دولاراً لخام برنت، رغم أننا قد نشهد تقلبات حادة في الأسعار، لكن التوقع بدخول موجة شراء كبرى، وخصوصاً من دول ينمو استهلاكها بنسب عالية كالصين والهند، سيرفع من الأسعار لتستقر عند مستويات جيدة للمنتجين من دول أوبك؛ كونهم الأقل في تكلفة الإنتاج عالمياً. وبما أن السعودية من كبرى الدول إنتاجاً وتصديراً للنفط، ويشكل أكثر من 90 في المئة من إيرادات الخزانة العامة، فإن المستثمرين بالسوق المالي تخوفوا من ظهور آثار سلبية على نتائج الشركات المستقبلية؛ ما ساهم في الضغط على السوق، وهبط المؤشر مرتين دون مستوى 9000 نقطة، دون أن يكون هناك تقييم واقعي لمستقبل نتائج الشركات والآثار المحتملة من تراجع أسعار النفط، وهل هي مخاوف حقيقية أم مبالَغ فيها. وساعد على تكريس المخاوف غياب تقارير دقيقة، توضح الآثار المتوقعة، وأيضاً مرور السوق بمرحلة تصحيح بعد موجة ارتفاعات كبيرة؛ فمنذ عام 2012 ارتفع المؤشر نحو 4800 نقطة من أدنى مستوياته. وإذا ما حاولنا أن نقرأ الواقع الحالي للسوق، وما سيؤثر عليه من تراجع سعر النفط، نجد أن مكرر السوق حالياً يقارب 14 مرة، وهو منخفض عموماً، ويتوقع أن يقل مستقبلاً مع توقعات نمو أرباح أغلب قطاعات السوق. أما لماذا قد تنمو الأرباح؟ فيعود السبب إلى أن الإنفاق الاستثماري في الاقتصاد المحلي يتوقع أن يستمر؛ فأسعار النفط لن تشكل ضغطاً كبيراً للعام القادم لو بقيت عند مستويات حول 70 دولاراً؛ لأن هناك طرقاً عديدة لتغطية أي عجز بالإيرادات، وكذلك ستستخدم أدوات كثيرة يتيحها وضع الاقتصاد العام القوي للمملكة لتغطية تكاليف المشاريع؛ لأن تغطية النفقات الأساسية بالموازنة تحتاج إلى أسعار نفط أقل بكثير من أسعاره الحالية، وقد لا تحتاج إلى أكثر من 50 دولاراً للبرميل لتغطيتها، بمعزل عن أي إيرادات أخرى. ومع وجود احتياطات مالية كبيرة، ودين عام منخفض جداً، فإن استمرار التنمية الاقتصادية سيبقى قائماً وفق ما هو مطلوب؛ إذ لا يمكن تغيير اتجاهات التنمية بتخفيض الإنفاق وأنت قادر عليه؛ لأن ذلك سيؤدي لنتائج سلبية، وخصوصاً بملف معالجة البطالة، والاتجاه نحو زيادة الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد. وبذلك، فإن الأثر على السوق المالية سيكون إيجابياً؛ كون النشاط الاقتصادي سيبقى جيداً، وقد تختلف نسب نمو القطاعات والشركات، لكن جل قطاعات السوق مرتبطة بالاقتصاد المحلي، باستثناء البتروكيماويات، التي يتوقع أن يعاود الطلب العالمي ارتفاعه على منتجاها خلال النصف الأول من 2015م، بحسب توقعات وتقارير دولية؛ لأن تراجع الأسعار سيحفز الطلب من جديد، بخلاف أي عوامل دعم وتحفيز ستطلقها الاقتصادات الكبرى، وخصوصاً شرق آسيا. أما العوامل التي يجب أن يلتفت لها أيضاً فهي أن تراجع التضخم سيؤثر إيجاباً بأرباح الشركات، وهو أمر متوقع، إضافة إلى أن قوة الدولار تعني قوة الريال المرتبط به، وهذا يعزز من الاستثمار بالاقتصاد المحلي والسوق المالي؛ لأنه أكثر حفظاً للثروة، قياساً بإبقائها بعملات تراجعت، ويتوقع أن تستمر بالتراجع؛ ما قد يأتي بأموال كبيرة للاستثمار محلياً، سواء من مواطنين أو من المستثمرين الأجانب المتوقع دخولهم بعد شهور بالسوق المالي المحلي مباشرة. كما أن التوزيعات النقدية نسبتها ترتفع بأسعار التصحيح الحالية، وستبقى أعلى من معدلات الفائدة بنسبة عالية، حتى لو بدأت ترتفع في العام القادم، حسب ما أعلن الفيدرالي الأمريكي؛ لأنها حالياً أقل من واحد في المئة محلياً، بينما العائد على السعر يفوق 4 في المئة بالسوق المالي عموماً. إن المرحلة الحالية للسوق المالي تتطلب من المستثمرين التأني بقراراتهم، وعدم الانجراف نحو السلبيات دون الالتفات إلى القيم الاستثمارية التي تظهر بالسوق حالياً، وأن يكون لديهم الاطلاع الكافي على المعلومات التي توضح الحقائق لهم، كصدور الموازنة العامة المتوقع خلال أيام قليلة، وكذلك النظر لمتوسط سعر النفط المتوقع للعام القادم، وليس حركة الأسعار اليومية. فمن التصحيحات السعرية التي يتزامن معها ضغط من أخبار سلبية تتولد الفرص؛ ما يعني أن المستثمر عليه أن يحدد قراره بعيداً عن العاطفة، وملاحقة المضاربات بهذه المرحلة؛ حتى يتخذ القرار السليم، إما أنه يرى بالسوق فرصاً مبنية على حسابات وتقييمات مالية، تعطيه قيمة مضافة، وإما أن يتخذ قراره بعدم الاستثمار بالسوق بشكل كلي أو جزئي، ولكن بناء على تحليل دقيق، ومعلومات تكون منطقية، فالقرار هو للمستثمر، ولكن لا يجب أن يكون للعاطفة أي تأثير فيه.