يمر اليمن الشقيق بوضع صعب ومعقد ومجهول المصير، ومتداخل في أبعاده الداخلية، وفي تأثيراته الإقليمية والدولية، وهي مرحلة تُعد الأشد خطورة في تاريخ اليمن الحديث، حيث تتسارع الأحداث وتختلط الأوراق، وتتغير موازين القوى السياسية والعسكرية المتصارعة على الأرض، والذي بلغ ذروته في السقوط السريع للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر الماضي على يد حركة أنصار الله الحوثية، وما سبقها وأعقبها من توالي سقوط محافظات رئيسة مهمة في الشطر الشمالي لليمن مثل صعدة وعمران والجوف والحديدة وذمار وغيرها. كل ذلك يتم وسط انهيار شامل لهياكل الدولة الإدارية والعسكرية والأمنية حيث أصبحت اليد العليا للحوثيين الذين باتوا المتحكمين الفعليين على تلك المرافق الحكومية كافة، وقد نظموا ما سُمي باحتفالات جمعة النصر في صنعاء التي شارك فيها مئات الآلاف من أنصارهم، في حين باتت سلطة رئيس الدولة عبد ربه منصور هادي لا تتعدى عملياً القصر الجمهوري. وضمن هذا السياق جرى تحجيم وتغييب وانكفاء قوى سياسية وقبلية ودينية بارزة في مقدمتها حزب تجمع الإصلاح اليمني (الواجهة السياسية للإخوان المسلمين)، كما انتهى عملياً مشروع المبادرة الخليجية للخروج من الأزمة اليمنية في أعقاب اندلاع ثورة فبراير 2011 ضد نظام حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، والأمر ذاته ينسحب على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني التي اتفقت عليها قيادات المعارضة والحكومة ورئاسة الجمهورية. وفي موازاة ذلك طالبت الحشود الشعبية التي نزلت إلى شوارع عدن للاحتفال بذكرى ثورة 14 أكتوبر ضد الاحتلال البريطاني بالانفصال والعودة إلى ما كان يُعرف حتى عام 1990 بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، واللافت هنا دعوة زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي للقيادات الجنوبية المهاجرة للعودة إلى اليمن لبحث مستقبل الجنوب، وهو ما يعني ضمناً الموافقة المبدئية على مطالب سكان الجنوب بالانفصال. قيل الكثير عن عوامل وأسباب السقوط السريع للعاصمة صنعاء، ووجود تواطؤ وتآمر من قِبل قيادات سياسية وعسكرية وأمنية يمنية بارزة لتسهيل سيطرة الحوثيين على صنعاء، من بينهم أنصار الرئيس اليمني السابق. البعض شبّه سقوط صنعاء بالاجتياح السريع لمدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد من قِبل تنظيم داعش في شهر يونيو الماضي، ومع وجود تقاطعات في الحالتين، غير أن هناك في الوقت نفسه بعض الاختلافات المهمة بينهما. صحيح أن العراق واليمن يمتلكان خصائص وسمات الدولة الفاشلة بامتياز، حيث ترهل وضعف الدولة ومرافقها البيروقراطية والعسكرية والأمنية وانتشار السلاح والعنف والإرهاب وتوطد مواقع المليشيات (السنية والشيعية) المذهبية، إلى جانب فساد النخب المتحكمة بالسلطة والثروة والقوة، وفشل التنمية بكافة أبعادها وتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي من ذيولها انتشار رقعة الفقر والبطالة والأمية والعنف، وتدهور البنية التحتية، وغياب الخدمات مثل التعليم والصحة والمياه والوقود، ناهيك عن المظالم والاستبداد (المذهبي والمناطقي) الواقع على قطاعات واسعة من الناس، مما أسهم في تصدر وتأجيج صراع الهويات والانتماءات (المذهبية والقبلية والمناطقية) الفرعية التي استغلتها مجاميع وقوى متطرفة وإرهابية ومتوحشة على غرار تنظيم داعش في العراق وسوريا، أو مجموعات مذهبية - قبلية كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن، غير أنهم (بخلاف داعش) اكتسبوا خبرة سياسية وعملية (براجماتية) وقدرة على المساومات وتقديم التنازلات إزاء المكونات والقوى الأخرى، بل والتقاط وتبني (بغض النظر عن الدوافع وهل هو تكتيك أم خيار حقيقي) المطالب السياسية والشعبية المحقة كما هو الموقف من الأزمة السياسية التي تعصف بالدولة والمجتمع، والانهيار الأمني، ارتفاع أسعار السلع التموينية والوقود والغاز، ما جعلهم مقبولين من قِبل قطاعات غير قليلة من السكان، سواء ضمن قاعدتهم المذهبية (الزيدية)، أو على صعيد القوى (الحكومية والمعارضة) المدنية والسياسية الأخرى. في الحالتين (العراق واليمن) تشابكت المحفزات والمؤثرات والسياسات الداخلية الفاشلة للنخب الحاكمة، مع دور العاملين الإقليمي والدولي (وبخاصة الأمريكي) المتنامي في الدفع بتأجيج الانقسام والصراع والاحتراب، والسقوط السريع نحو مستنقع الحرب الأهلية. اليمن يواجه اليوم خيارات وسيناريوهات مصيرية، وبات عند مفترق طرق، إما الانجرار نحو الحرب الأهلية والتشرذم والتّشظي ليس وفقاً للنموذج السوداني (فهذا تحصيل حاصل)، بل وفقاً للنموذج الصومالي، وفي أحسن الحالات وفقا للنموذج العراقي - السوري. الخيار أو السيناريو الآخر هو العمل على استعادة الاستقرار والسلم الأهلي من خلال التوافق بين المكونات والقوى السياسية اليمنية كافة، على إقامة الدولة الوطنية - المدنية المستقلة عن تأثير التجاذبات والصراعات الإقليمية، والتي تستند إلى المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وضمان المشاركة الشعبية في صنع القرار، والعمل على وضع إستراتيجية وطنية شاملة في مواجهة خطر التنظيمات الإرهابية والعمل على تجفيف منابعها ومحاضنها الاجتماعية والفكرية، والدفع بالتنمية المستدامة والمتوازنة التي من شأنها معالجة قضايا الفقر والبطالة والفساد والأمية، وإيجاد حلول وتسويات سلمية وعادلة للجنوب والمحافظات الأخرى التي تعاني التهميش والإقصاء.