المتفكِّر في الحكم التي تبثها سورة الكهف للمتأمل أبعادها، يخلص إلى أن طبيعة البشر ميولهم لمعرفة ما لا يعلمون، وللعلم بما يخفى عليهم من جانب، مع أن السؤال عما لا علم لهم به في بعض أمور يكون اقتحاما لحدود ليست قدراتهم في نطاق سعتها..، وفي محاولة معرفتها ما لا يفيدهم بشيء، بل إن في بعض ما يحاولون معرفته ما يجر عليهم ما لا يحمد إن علموا ولم يستوعبوا، أواستوعبوه ولم يأخذوا به، أو أنكروه بمحدودية قدراتهم البشرية، ولم يتفكروا في هذا، أو جعلوا من معرفته أسَّا لتجنبه،أو نكرانه، أو عجزت طاقاتهم عنه، تماما كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...} (المائدة 101).. ومع أن السؤال في كثير من أوجه الميل للمعرفة هو باب للوصول إليها، وإلى نتائجها الموجبة، إلا ما قيد بارتباطه بأمور غيبية، أو أن هذا الباب يؤدي إلى أمور تخص الآخرين، أو توقع في نطاق ما ليس في استطاعة المرء إدراك تفاصيله، فتكون حينئذ المعرفة غير مجدية..كما هو في المطلق المبهم في بعض الأحكام الشرعية، فبإدراك معرفتها يتقيد المرء بالمثول إليها،وفي المثول مشقة عليه كانت محجوبة عنه قبل معرفتها رحمة به من الله تعالى..، وتماما كالذي يقرأ نشرة مفصلة عن تركيب دواء مقرر له فلا يدرك من التفاصيل غير المحاذير المتعلقة بالدواء فيمتنع عن تناوله فيزداد مرضاً ويهلك.. هناك من المعرفة ما لا يجدي المرء تماما كما هناك من الجهل ما يفعل به..! والمتفكر في الحكمة من الضوابط يدرك أن المطلق في كل أمر ليس بالضرورة أن يأتي بثماره..!! والمُثل، والعِبر، والحكم التي تبسطها آيات القرآن لا تنفد، وهي على مر العصور تناسبها..، فكلما قرأ المرء آي القرآن، وتبصر في دلالاتها، وتفكر في مراميها وغاياتها، وجد في هذا السفر السماوي العظيم، والدستور التعليمي المنير ما لا يقْدُم مع زمن، أو يقف عند بشر،.. هو «قرآن» مبين لكل من اهتدى به ممن خلق الله حتى يوم لقياه الأكبر، تثبت معانيه مع تجدد الأجيال، يتوافق مع حاجات الإنسان مهما تغيرت حياته، وتبدلت أزمنته، حي فعَّال يهب النور، ويدل على المطلوب في شأن المرء وربه، والمرء ودينه، والمرء ومجايليه، والحياة لتكون جسرا منبسطا بلا نتوءات ولا عراقيل.. فيه تبيان ما بين طريقين.. بما فيه من ضوابط للمعرفة، ونهج لدروبها. وكلما تفكر من يتلوه، وتدبر كلما زاد علمه، وأدرك بشريته ووعى نطاقاتها المحدودة التي قدرها الله تعالى فيه، وأيقن أنه ليس في قدرته أن يطغى عليها مهما أخذته العزة بنفسه..وطغت به معارفه فوق الأرض. فإن شاء أن يعلم فعليه أن يتعلم ما استطاع..، ومن شاء أن يعرف فعليه أن يخبر بقدر ما هيأه الله تعالى له، وأعانه به من العلم فيتسلح ببراهينه، وحججه. وتلك مهمة جادة وتتطلب من الإنسان بذل الوقت،والجهد،وإخلاص التوجه لاكتسابات مهارات المعرفة، وتوظيفها بأن يهتبل ما يعرف بما في أقصى قدرته أن يعرف..، يستزيد فيفيد ويستفيد، وينتج ويؤثر.. فيما يفرق بين معرفة منتجة ومثمرة، وأخرى ليست تضيف ولا تستفيض.