أكد أكاديميون ودعاة ومتخصصون في علوم الشريعة على البعد الإنساني والاجتماعي في الحج، مشيرين إلى أن الجميع في أداء الفريضة سواسية، لا فرق بين غني وفقير, وبين رئيس ومرؤوس، وقوي وضعيف، الجميع جاءوا من كل حدب وصوب لأداء الفريضة، وليشهدوا منافع لهم وليطوفوا بالبيت العتيق، وقالوا إن الحج يحقق التكامل بين المسلمين ويتبادلون المصالح الدينية والدنيوية، وإزالة الحواجز والأسوار والعنصريات التي توجد بين المسلمين، وان توحيد لباس الإحرام للذكور من إظهار تساويهم في ميزان الشريعة وتذويب الفوارق. التأليف بين القلوب يشير الاستاذ الدكتور عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين، رئيس وحدة البحوث وأستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالأحساء إلى أن رعاية الجانب الإنساني والاجتماعي في وحدة الأمة الإسلامية دعا إليها المولى الكريم في القرآن العظيم فقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (63) سورة الأنفال، وحذّر المولى - عز وجل - من التنازع الذي يؤول إلى الفشل وتسلط الأعداء، قال جل جلاله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (46) سورة الأنفال. ويأتي تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع على رعاية الجانب الإنساني والاجتماعي بقوله: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا..» رواه البخاري ومسلم. الحقوق والواجبات ويؤكد الدكتور الحسين أن رعاية الجانب الإنساني والاجتماعي أمر مهم للغاية، فحرمة المال باقية إلى قيام الساعة، ولهذه الحرمة أثر في تحقيق المجتمع الآمن الذي تصان فيه الأموال وتحفظ فيه الحقوق والممتلكات، يقول الشيخ عطية سالم: «الدولة، المملكة العربية السعودية، حرسها الله التي قامت على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمثل العالم أمنًا واستقرارًا وطمأنينةً وإخاءً». وضرب مثالاً في تحقيق الجانب الإنساني والاجتماعي وهو ما نراه في جموع حجاج بيت الله تعالى وتقاطرهم من بلدان العالم أجمع إلى بلاد الحرمين، حماها الله، ويتضح بالغ المقام وتتويجه باجتماع الحُجاج في صعيدٍ واحدٍ،أكثر من ثلاثة ملايين حاج، وفي وقتٍ واحدٍ هو صعيد عرفة؛ اليوم التاسع من ذي الحجة، في كل عام يجتمعون على نداء واحد هو لبيك اللهم لبيك. ويضيف الدكتور الحسين: من مشاهد رعاية الجانب الإنساني والاجتماعي، اجتماع جموع الأمة على اختلاف أجناسها، وتعدد لغاتها، العربي والأعجمي، الأحمر والأبيض والأسود، على صعيد عرفة، مما ينبئ عن إقرار لرابطةٍ وثيقةٍ، وصلةٍ عظيمةٍ، هي أعظم من رابطة النسب، ووشيجة الرحم، إنها الرعاية الإسلامية الإنسانية واللحمة الاجتماعية، التي لا تنفصم عُراها، شعارها الألفة والأنس، ودثارها المودة والمحبة، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «يا أَيُّهَا النَّاس، ألا إن رَبَّكم وَاحِدٌ، وإِنَّ أبَاكُم وَاحِدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلى عَجَميٍّ، ولا لِعَجَمي عَلى عَرَبي، ولا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، ولا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -». رواه أحمد في المسند (5/411). ويوضح د. الحسين أن مفهوم الجانب الإنساني والاجتماعي في الحج بالنسبة للمرأةِ يتجلى أسوة بالرجل في أداء العبادات والأحكام، بعد أن كانت بعض الملل والنحل تُفرق الشعوب إلى طبقات! وكان الجدل يدور حول المرأة أهي ذات روح أم لا روح فيها؟! فجاء الإسلام مقررًا الحقوق والواجبات، وأنه لا فضل بين الناس على أي أساس إلا العمل الصالح، ولا كرامة لأحد إلا للأتقى، فكان الاعتراف للمرأة خصوصاً وثبةً لم يعرف لها التاريخ البشري نظيرًا، ولا تزال إلى هذه اللحظة قمة ينشدها كل البشر. مقاصد كثيرة أما الدكتور أحمد بن عبد الله الفريح، عميد المعهد العالي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجامعة أم القرى، فقال: حين يتأمل المسلم شعيرة الحج، وينظر في تفاصيل أحكامها يلاحظ اشتمالها على معانٍ كثيرة تتجاوز أداء الحاج، ويرى مقاصد كثيرة ذات بعد إنساني واجتماعي، وتتضح تلك المعاني من خلال عدد من الأحكام والتوجيهات، ومنها أن الله اعتني بوفود الحجاج والمعتمرين، ورفع شأنهم إكراماً لهم « فالحجاج والعمار وفود الرحمن وضيوفه، دعاهم فأجابوه «، فأوجب إكرامهم بالإطعام والسقاية والرفادة وتقديم كل ما يسهل عليهم أداء المناسك، فمن عجز عن الحج بنفسه أعان غيره بماله ليحج عنه، فيحصل التكامل بين المسلمين، ويتبادلون المصالح الدينية والدنيوية، فيقوم المقتدر مقام غير المستطيع في أداء النسك، إضافة إلى كون الحج والعمرة محلاً لدعاء المسلم لنفسه ولغيره من المسلمين، وحين يخطئ الحاج في أداء نسكه، أو ينقص منه يجبر نسكه بدم يذبحه ويقدمه للفقراء والمحتاجين، فإن أتمه ولم ينقص منه أتم نسكه بهدي يذبحه في مكة يأكل منه ويطعم غيره، ويهدي الآخرين، فيتم حجه، ويفي بنذره، ويطعم سكان بيت الله الحرام، فإذا كان يوم عيد الأضحى تهادى الحجاج وسكان مكة الطعام والشراب، إضافة إلى ما أحله الله من تبادل المنافع سورة الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وتلك مظاهر إنسانية واجتماعية تؤكد أن شعيرة الحج أكثر من نسك. الحج يربي على التعاون يقول الشيخ محمد بن عبد العزيز المطرودي عضو الدعوة والإرشاد بمنطقة نجران وعضو اللجنة الوطنية لرعاية السجناء: إنَّ الله - جلَّ وعز - بعث الرُّسل وأنزل الكُتب من أجل أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، مما يجعلُ المرء في أحسن أحواله الإنسانية والاجتماعية، يعمر الأرض بكل القيم والأخلاق الفاضلة. فالحج فرصة ثمينة لبناء أقوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين المسلمين من كل أنحاء العالم، وبيان المساواة بين جميع المسلمين إذ لباسهم واحد، وشعارهم وعملهم ومكانهم واحد،لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. بل إن موسم الحج فرصة هائلة للمعرفة الواعية بحال المجتمعات الإسلامية، إذ يَفِدُ إلى مكة أناس من كل بلد وحدب وصوب، ومن خلالهم نعرف هموم المسلمين وآمالهم وطموحاتهم وتجاربهم، ويجد الغني مجالاً لمواساة إخوانه الفقراء سواءً الذين حجوا، أو أولئك الذين لم يستطيعوا الحج من خلال إخوانهم الحجاج، وهذا يشعرهم بروح البنيان والجسد الواحد، والوحدة والتآلف والشعور بالأخوة الإسلامية مع المؤمنين في أصقاع الأرض؛ فهذا الشعور يعتبر من أعظم مقاصد الديانات السماوية، وكذا التعارف الذي هو من مقاصد الحج الاجتماعية، من أجل إزالة الحواجز والأسوار والعنصريات التي توجد بين المسلمين بسبب الانتساب للقبائل أو المذاهب أو الألوان أو الشعوب. ان اجتماع الحجاج يوسع مدارك المرء بالسفر والمرور ببلدان كثيرة حتى يصل إلى مكة، حيث الجموع الغفيرة التي تنقل معها الثقافة والتجارب التي تختصر عمراً من البحث والقراءة. كما إن موضوع الفدية والصدقات والنفقات والأنساك الواجبة والمستحبة وإنفاقها من أعظم مظاهر الحج الاجتماعية والإنسانية؛ مما يكون له أعمق الأثر في نفوس المسلمين عاجلاً وآجلاً. إننا نشعر بالفخر والاعتزاز عندما نرى مسارعة المسلمين أفراداً وحكومات وجمعيات خيرية وأهلية إلى بذل المعروف والإحسان في موسم الحج العظيم؛ في مشروعات السقيا والرفادة والإطعام المجاني مما لا تعرفه الأمم كلها في مثل هذه الجموع والحشود الكبيرة، فالأنانية تنحسر بشكل لافت وتظهر الرحمة في صور مختلفة من العطاء والتطوع خدمةً للمسلمين. كما أن من مظاهر الحج الاجتماعية التربية على الأخلاق، والسلام والتسامح والتغافر وحفظ الحقوق؛ لأن اختلاط الناس وتزاحمهم مظنة الجور والاعتداء .أيضاً حفظ الجوارح أثناء الحج واللسان من الجدل والغيبة والنميمة وتحقير للناس، وحفظ الأذن من السماع المحرَّم، وحفظ العين من النظر المحرَّم، وحفظ اليد من البطش والعدوان والسرقة. فالحج يربي على التعاون الاجتماعي وأن يتجاوز الإنسان حدود نفسه الضيقة وكهوفها الممتلئة بالأنانية والشح إلى ميدان أوسع وأرحب من البذل والعطاء والإحسان. ومما لاحظه الشيخ محمد المطرودي في السنين المتأخرة إقبال التجار والأغنياء والمترفين على الحج، وهذا في نظري أمر محمود خلافاً لما قاله بعض الفضلاء من أن هؤلاء يضيقون على الناس ويحزنونهم بمظاهر الترف والإسراف، والحق أنهم مع ترفهم وغناهم فإنهم ولا بد سينالهم تعب السفر ومشقته، والحج مواضعه وأنساكه محددة، ولا بد لهم من الطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى ورمي الجمار وسيلتقون بإخوانهم المسلمين على اختلاف أحوالهم وظروفهم وسيطبع في نفوسهم من الرحمة والعطف والشفقة ما تتهذب به أرواحهم، وتصفو به نفوسهم، فالذي أراه ترغيب الأغنياء والتجار في الحج وإغراؤهم به من أجل هذه المقاصد الجليلة. وختم فضيلته حديثه بالتأكيد على أن الحج فرصة لكثير من البرامج والمشروعات والأعمال المدروسة المخطَّطة للفرد وللأسرة وللشركة وللمجموعة ولأهل مكة ولغير أهل مكة وللحاج؛ بشرط أن يتحقَّق فيها الأمانة واجتناب الغش. الأهم والأعظم ويقول الدكتور سليمان بن محمد الحسن، أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم وإذا أردنا أن نلتمس شيئاً مما يمكن أن يكون من المقاصد الشرعية في الجانب الإنساني والاجتماعي، فإن أول ما يبرز بجلاء هو ترسيخ مبدأ المساواة بين الناس في الإسلام، ويظهر في كثير من شعائر الحج ومناسكه، ففي توحيد لباس الإحرام للذكور من إظهار تساويهم في ميزان الشريعة ما لا يخفى، حيث تذوب الفوارق فيظهر الغني الذي يملك الأرصدة الضخمة متساوياً في لباسه مع الفقير الذي لا يملك شيئاً، كما أن في توحيد أماكن المناسك وأوقاتها بحيث يؤديها الجميع في مكان واحد وفي وقت واحد وعلى هيئة وصفة واحدة بلباس واحد متجهين لرب واحد ما يدعو إلى ترسيخ مبدأ المساواة بين الناس، كما يتجلى ذلك أوضح ما يكون في وقوف الحجيج على صعيد عرفات يوم التاسع من ذي الحجة، ولهذا كان إعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا المبدأ، مع بقية حقوق الإنسان، في هذا الموضع حيث نادى - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع قائلاً: «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أصفر ولا لأصفر على أحمر إلا بالتقوى..» وهو بهذا يؤكد ما أعلنه القرآن قبل ذلك في قوله - جل وعلا -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (13) سورة الحجرات. كما نلحظ الدعوة إلى المساواة وإبطال الطبقية والعصبية التي كانت السائدة في المجتمع الجاهلي في قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} سورة البقرة (199) فأبطل ما كان منتشراً في حج أهل الجاهلية من تمييز من يُسمَّون بالحُمُس من أهل الحرم من قريش وغيرها عن بقية الحجاج في مكان الإفاضة والوقوف وزمانهما، فالناس في الإسلام سواسية لا يصح أن يميّز بعضهم عن الآخرين لجنس أو لون أو مكانة في المال أو الجاه أو غير ذلك. ويشير د. سليمان الحسن إلى أن في كثير من مناسك الحج وشعائره ما يؤكد مبدأ التكافل الاجتماعي بين المسلمين، ويبرز ذلك بوضوح، علاوة على ما سبق الإشارة إليه، في تحقيق مبدأ المساواة التي بدورها متى ترسخت في المجتمع أفرزت التكافل والتعاون فيما بينهم. وتبرز الدعوة إلى التكافل في شعائر الحج في مشروعية تقديم الهدي لتوزيعه على فقراء الحرم وزائريه المحتاجين، وكذلك في جعل الفدية لارتكاب شيء مما يُمنع منه الحاج مشتملة على إطعام المحتاجين وإرفاقهم، وهذا بدوره يقود إلى تحقيق مبدأ الأخوة والاجتماع والتآلف بين المسلمين، وهو من أعظم المقاصد الشرعية التي أمر الله عباده بها وشرع لهم من الشرائع والشعائر ما يحققها، وهذا المقصود العظيم الذي يظهر في عامة أعمال الحج ومناسكه بدءاً من توحيد المكان والزمان لاجتماع الحجاج وتنقلاتهم بين المشاعر وأدائهم النسك كلها بصورة جماعية، وكذا مشروعية الجمع والقصر للواقفين في عرفة والمزدلفة والقصر أيام منى للحجاج جميعاً حتى أهل مكة والحرم مما يؤكد حرص الإسلام على جمع كلمة أتباعه ونبذ الفرقة والخلاف والتنازع.